خطوط سرمدية..

رحاب محمد عثمان.

الخط يبقى زماناً بعد صاحبه*وصاحب الخط تحت الأرض مدفون
هكذا يقرر الشاعر أبدية وبقاء الكتابة بعد فناء صاحبها، وذهابه للعالم الآخر.
لذلك يقدم لنا الشاعر الدبلوماسي الراحل عبدالمجيد حاج الأمين نصيحة ذهبية بقوله:
فلا تكتب بخطك إلا مايسرك في القيامة أن تراه.
عندما كنا في الكتاتيب صغاراً، نتلمس أولى دروب المعرفة، كنا نكتب على دفاترنا:
إن ضاع إسمي في الخيال ،ودفن جسدي في الرمال ؛ فهذا خطي لا يزال.
إذاً هي الكتابة والتدوين والتوثيق ماحفظ لنا حضارات الأمم السابقة، وآثار من درسوا، ومن أعظم ثمرات التدوين: جمع القرآن الكريم وحفظه ،بالعناية الإلهية:” إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون”.
بي ولعٌ وشغف منذ نعومة أظافري بالإحتفاظ بالصحف والمجلات القديمة، والصور الفتوغرافية والرسائل ،قبل ولوجي بلاط صاحبة الجلالة،وترسخ هذا الشغف عندما عملت في قسم البحوث والمعلومات بصحيفة السودان الحديث ، برعاية كريمة من رئيس القسم عثمان النمر، ثم عملت مع الراحل أحمد شاموق ، وتأثرت به في إهتمامه بالتوثيق والتأريخ.
ظللت زماناً أحتفظ بالكثير من خطوط من رحلوا عنا من معارف وأصدقاء،ومصادر صحفية.
وسأحكي قصص بعض الخطوط التي تقبع بين دفاتري وأوراقي:
أبوي عثمان كما كان يحلو لنا مناداته،وهو جدي لأبي كان حافظاً ومعلماً للقرآن الكريم، درج- رحمه الله
[١٤/‏٩ ٧:٣٠ ص] أمينة الفضل: أن يكتب لي بعض الآيات بخط يده على قراطيس متفرقة، إلى جانب بعض أبياتٍ في الحكمة لأعلام الصوفية، ومما ظل عصياً على النسيان ،ما كتبه لي بخط يده ،في أبياتٍ هي نفسها ، تمدح الخطاط وتمجده:
تعلم الخط ياذا التأدب*وباهي به النساخ في كل مكتبِ
إن كنت ذا مالٍ فخطك زينة*وإن كنت محتاجاً فنعم المكسب
إن الدراهم في الأماكن كلها*تكسو الرجال مهابة وجلالا
هي اللسان لمن أراد فصاحة*وهي السلاح لمن أراد قتالا.
إبن خالتي حسن عباس الشيخ الذي رحل في عنفوان شبابه ،على نحوٍ مأساوي وفاجع،عندما انقضت عليه خلية نحل متوحش بأكملها ، ونفثت في الجسد الواهن كل سمومها وشرورها، وكان مسرح المأساة شارع النيل بالخرطوم،كانت لحسن أحلامٌ وآمالٌ عراض أن يصبح مطرباً مشهوراً، لكن المنية عاجلته قبل أن يحقق حلمه.
كان كثيراً مايدون الأغنيات التي يشدو بها ؛ ليسهل عليه حفظها وأداؤها،واستطعت جمع بعض هذه الأغنيات ، والإحتفاظ بها، ومازالت بين أوراقي.
وممن ظللت أحتفظ بخطوطهم : صاحب البحر القديم الشاعر الراحل مصطفى سند، كتب لي أبياتٍ في مدح المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، لنشرها في جريدة الصحافة، ولم يقدر لها النشر.
الشاعر الراحل صديق مدثر أجريت معه أول حوار صحفي للصحافة السودانية بعد عودته من مهجره بالمملكة العربية السعودية، ونشر في صحيفة الأزمنة، عندما سألته عن رائعته التي شدا بها الكابلي ضنين الوعد،وأنه لم يكتب أجمل منها، فأطلعني على قصائد له أخرى لا تقل عنها جمالاً وعذوبة ، كتبها بخط يده، وأهدانيها.
مهيد محمد صلاح بخاري الصحفي الشهيد الذي رحل باكراً ، وهو في أوج عطائه الصحفي والإبداعي في حادث سقوط الحافلة الشهير من كبري شمبات عام 2001م، بعد ثلاثين يوماً فقط من زواجه ، دون بخط يده أبياتاً ، وأوصاني بنشرها، ظلت في ذاكرتي وأرشيفي عصيةً على المحو والنسيان.
وأذكر أن أول استراحة كتبتها ونشرت في أخيرة -طيبة الذكر -السودان الحديث ، بتشجيع من عاشق الهلال ، والرياضي المطبوع الراحل عبدالمولى الصديق ،كانت بعنوان (روشتة خط يكتبها صيدلي)، وهو الذي اقترح هذا العنوان الطريف.
وتحقيق أجريته نشر في جريدة الصحافة عن سودانيون خطوا المصحف بأيديهم ،أحصيت منهم المغفور له:جدي حسن أحمد عثمان الذي تتلمذ على يديه أعلام اللغة والأدب في السودان، وكان قد توفر على نسخ القرآن الكريم بيده لسنوات ذوات عدد ،بخطٍ بديعٍ جميل اشتهر به، وقام بإهداء هذا المصحف للملك فهد بن عبدالعزيز.
وثمة كلماتٍ سطرها لي زوجي قبل ارتباطنا ،ذ نسيها هو ، وظللت أحفظها عن ظهر قلب، لا تمحوها خلافاتنا الصغيرة ، ولا أسفاره الكثيرة !!.
والكثير الكثير من إهداءات الكتب التي تحفل بها مكتبتي ، تجملها خطوط مؤلفيها ، وتزدان بتوقيعاتهم،هي عندي ثمينة..ثمينة ، بقيمة الكتاب.

تعليقات
Loading...