عثمان الشيخ يكتب:المصالحة الوطنية أسرار وخبايا(4).

تداعيات:مرايا برس

شهدت الحكومة العسكرية في عهد الفريق عبود مواجهة عسكرية داخلية واحدة هى محاولة انقلابية من داخل الجيش ؛ قام بها الضباط عبدالرحيم شنان و على حامد و يعقوب كبيدة و آخرون والتي لم يكتب لها النجاح و اُخمدت فى مهدها .
المعروف أن نظام عبود كان عبارة عن انقلاب دبره حزب الأمة على شريكه في الحكم الحزب الوطنى الاتحادي ، و يقال ان حزب الأمة سلم السلطة للجيش نكاية في الاتحاديين .
و يُقال أيضا أن محاولة انقلاب الصاغ عبدالرحيم شنان والصاغ على حامد هى من تدبيز الاتحاديين و بالأحرى برضا المخابرات المصرية التى تناصب الأنصار و حزب الأمة عداءاً تاريخياً .
لم يكن نظام الفريق إبراهيم عبود نظاما عسكريا ذي انتماءات أو توجهات أيديولوجية مثل انقلاب العقيد جعفر محمد نميري الذي قام به (تنظيم الضباط الاحرار القوميون العرب و تنظيم الضباط الشيوعيون داخل القوات المسلحة) أو انقلاب العميد عمر حسن احمد البشير الذي قام به الضباط الاسلاميون داخل القوات المسلحة .
يوصف عسكريوا نظام عبود بالرحمة و الفطرة العسكرية المطلقة ، و لذلك عندما واجه الفريق عبود اندلاع المظاهرات الشعبية السلمية بقوة و إصرار على إزالة نظامه فى أكتوبر ، لم يتردد في التنازل عن السلطة حتى لا تُراق الدماء السودانية . حمد المؤرخون و المراقبون المحايدون هذا الموقف السلمى الشجاع للفريق إبراهيم عبود و أعضاء مجلسه العسكرى .
لم يتخلى الشيوعيون عن انتهازيتهم و نفاقهم و جحودهم و تنكرهم و غريزة حب الانتقام من العسكر فاصروا بعد انتخابات ١٩٦٦ و فوزهم ب ١٩ مقعد فى الجمعية التأسيسية ١٩٦٦ على محاكمة انقلابيي نوفمبر ١٩٥٨ و تقديمهم إلى المشانق بحجة تقويض الديمقراطية بمثل ما يفعلون الآن بالرئيس المشير عمر البشير و ضباط ثورة الانقاذ الوطنى في ١٩٨٩ .
وقف نواب الإخوان المسلمين الخمسة بقوة ضد تقديم انقلابيي نوفمبر ١٩٥٨ للمحاكمة بحجة أخلاقية لا انتقامية لأنهم تنازلوا للشعب عن السلطة طوعيا و لم يريقوا قطرة دم ، و كان بإمكانهم ذلك .
حمد المراقبون هذا الموقف الأخلاقي للإخوان المسلمين و شجبوا موقف الشيوعيين الانتقامي بالرغم من مشاركتهم نظام عبود فى السلطة بتعليمات من الراعي الاتحاد السوفيتي . من مفارقات الدهر العجيبة إصرار الشيوعيين الان على محاكمة ضباط ١٩٨٩ و تجاوز محاكمة ضباط انقلاب نميري ١٩٦٩ الذين كانوا شركاء فيه . ليس غريبا الا يحاكموا أنفسهم و يصرون على الإيقاع بالاسلاميين في ازدواجية معايير أوضح من الشمس فى رابعة النهار .
تعرض نظام نميري لمواجهة عسكرية دموية شرسة بقيادة الضباط الشيوعيين داخل القوات المسلحة .
تمكن الرئيس نميري من اخمادها و لم تحدث مواجهة عسكرية أخرى من داخل القوات المسلحة .
واجه الرئيس عمر البشير مواجهة من داخل القوات المسلحة دبرها الضباط البعثيون بمشاركة مؤيدى أحزاب أخرى داخل القوات المسلحة. استطاع الرئيس عمر البشير من اخمادها ايضا .
دخلت رغبة الإسلاميين فى عقد مصالحة صادقة دائمة و شاملة مع الحكم العسكري الشمولي التاريخ من حيث أنها من المبادرات الفريدة من نوعها . تباينت لذلك وجهات نظر المحللين السياسيين و المراقبين المحايدين حول تصديقها ؛ أهي مناورة سياسية ام تقدير مرحلي ريثما تعيد المعارضة او الجبهة الوطنية حساباتها و ترتيبها مع الدول المعادية للنميري؟ بذل الإسلاميون جهدا خارقا فى إقناع غيرهم أن دعوتهم للمصالحة الشاملة دعوة جادة و صادقة و من أجل الوطن . بذلوا في ذات الوقت ، جهدا جبارا في إقناع الحلفاء الإقليميين الذين دعموهم ضد نميري و شكروهم على مواقفهم المساندة و انهم لا يريدون تكليفهم مجددا .
استطاع الإخوان المسلمون ، بدبلوماسيتهم و حنكتهم السياسية خلق بيئة مناسبة هيأوا بها الرأي العام المحلي والإقليمي و الدولي لاثبات صدق نواياهم و جدية مبادرتهم الوطنية و ذلك بمفارقتهم بإحسان للجناح المتمسك بالمقاومة العسكرية حتى إسقاط النظام و الذى يقوده الشريف حسين الهندى و فك ارتباطهم بالدول التى تعادي نظام النميري و ذلك بسحب مقاتليهم من معسكرات المعارضة في ليبيا و إثيوبيا و من ثم وقف الحملات الإعلامية و السياسية الشرسة ضد النظام التى كان الاخوان المسلمون يوجهون سهامها من المنابر الطلابية و الفئوية مثل اتحادات العمال و المزارعين و المرأة و الشباب و المحامين و الأطباء الوطنيين ، واجهاتهم المدنية التى كانت تربك النظام العسكرى و تؤلب عليه الرأى العام فى الداخل و الخارج و التى يدرك نظام نميري مدى تأثيرها السلبى على شعبية نظامه .
تأكد الإسلاميون من سلامة تخطيطهم لخلق بيئة سياسية ملائمة داخليا و خارجيا لاستقبال و تنفيذ هذا الهدف الإستراتيجي.
انقسم النظام العسكري تجاه هذه المبادرة الجريئة إلى معارضين و مؤيدين و هذا انقسام طبيعي بين صقور النظام و حمائمه و يقابل ذلك انقسام الجبهة الوطنية أيضا إلى صقور و حمائم . استفاد الإسلاميون من علاقاتهم الواسعة وسط القواعد الشعبية وكثافة انتشارهم الجغرافى وثقة الناس في صدقيتهم و وفائهم بالعهود كقيمة دينية و ميلهم للسلم رغم الدعاية المضادة الشرسة و الكثيفة
التي استخدم فيها خصومهم كل الوسائل .
كان السؤال الشاغل جدا ما هي الوسيلة أو الكيفية التي يبلغون بها نيتهم الصادقة في مصالحة النظام الذى قاتلوه و قاتلهم خاصة في ظل بيئة سياسية شديدة العداء ضدهم وأنهم لا يملكون حليفا محليا او دوليا لينقلوا عبره هذه الرغبة . زاد من تعقيد هذه المعضلة وجود زعيمهم الدكتور حسن الترابي في السجن و تفرق صفّي كوادرهم القيادية الأول والثاني بين المهاجر العربية والأوربية و الأمريكية وإختفاء كوادرهم الداخلية الثانوية عن الأنظار الحكومية و المخابرات و حذرهم من الظهور العلني داخل السودان .
كانت الخطوة الأخيرة في هذا التحول السياسي المدهش خيط ذهبي امسك به مواطن مدني سوداني استطاع أن يحرك هذا الخيط فى جميع الاتجاهات ليحدث ذلك الإختراق الغير متوقع حتى تمضي سفينة المصالحة الوطنية سالمة إلى شاطئ الأمان .
هل حدث ذلك بالصدفة ؟ و إذا لم يكن ذلك كذلك ما هى التدابير التى تسببت في نجاح أعظم مصالحة وطنية في تاريخ السودان الحديث بين الحكومة العسكرية و معارضتها المدنية المقاتلة.

تعليقات
Loading...