إبراهيم الإعيسر في دراسة نقدية في المجموعة القصصية (عذابات الملاك الأسمر) للقاص (الطيب قرشي. 

الخرطوم :مرايا برس

إن كانت لي دراسة (سيميائية) لا بد أن أتوقف أولاً عند الإهداء الذي أحياناً يمثل عندي بشكل خاص العتبة الأولى للإبداع ولمفهومية النص: أي الذي أتى على خاتمته (إلى كل الأصوات المكبوتة، التي تئن من الداخل، دون أن تقوى حتى على الصّراخ) وهنا إذ كنت داعماً لوجهة النظر التي يتبناها الغالب من المثقفين عامة بمختلف أعمارهم ونسبة درجاتهم الثقافية حول أدب الشباب (على أنه أدب في العادة فاقد لكثير من الأدوات الكتابية الإبداعية أو بعضاً من التشوهات تلازمه لتحيل النص القصصي إلى اللاقصصي والروائي إلى اللاروائي أو الشعري إلى النثري أو الخاطري إلى الحكائي): هو أن الأمر قد يبدو مشجع لهذه الدراسة النقدية إذ أن الإهداء صاحبته (وصفية شعرية) بالغة الدهشة في تحديد الدرجة الكبيرة المبهمة التي تفوق النسبي المفترض والمُتخيل حتى (في الكبوت الذي تعيشه تلك النفوس بين داخلها) حينا تئن ولا تقوى على الصراخ حتى نتيجة لإكتواها أو ((عذاباتها)) الكبيرة اليومية المتجددة – أو هي تعبر عن (مخيال خصب) للكاتب الذي نجح في خلق مساحة إرتباطية ما بين الأهداء وشكلية الإنسان في (عذابات الملاك الأسمر) فالإنسان (القاسم المشترك) بين هذه المجموعة القصصية هو ذلك الإنسان الذي يصارع ذاته داخيلاً، المريض نفسياً، المكتئب، المتوحد، والمعاق الذي افترضت عليه تخلفات مجتمعه في فهم الإعاقة بالصورة الخاطئة أن يعيش صراعاته الداخلية دون حكيم أو وسيط أو سند بينه سوى تلك ((العذابات)) التي يتعايش معها بصراع متواصل وأحزان كبيرة تحيله لخانة الأموات الأحياء .. فالعنوان الشامل – المرابط للمضامين القصصية – لهذه المجموعة هو ما يمكن أن نشير له بمسمى (عذابات الأموات الأحياء) أو (صراع الداخل) .. وربما أن ما يجعل الأمر مشجعاً أكثر وأكثر للقراءة عن – كاتب شاب – ذو تجربة أولى في الكتابة الإبداعية: هو أن تكتشف من العتبات الأولى أن القص إلتزم في إجادته للمحاور الكلاسيكية الخمسة لكتابة القصة القصيرة (اللغة السليمة/الجيدة – الفكرة المغايرة – فضاء الزمكان – تصور الشخصيات) . بل الأمر قد يصل بك إلى أن هذه الكتابة لا تعبر عن تجربة كاتب في بواكير تجاربه الأدبية؛ بل هو صاحب تجربة أدبية كبيرة وفريدة، ومدهشة، خلق فيها الكاتب منذ البدايات أرضية أدبية قصصية خاصة به؛ ذلك من حيثيات دراسة الشخصيات من داخلها النفسي بصورة (علمية نفسية) خصوصاً. وهو أمر ظل ذو معضلة كبيرة تواجه الأدب السوداني، بل العربي عموماً في أدبيات قصصية وروائية عديدة إن إستثنياً منها قليلاً التجربة المغاربية التي تميزت أدبياً ونقدياً، وهذا ما نجح فيه الكاتب عكساً لكثير جداً من ما سبقوه في المجال.

أما عند المقدمة التي كتبتها الكاتبة (صباح سنهوري) حول منحتها الأدبية أو مشروعها الأدبي (One Day Fiction) التي تبنت طباعة هذا الكتاب قبل أن تقدم منحتها للكاتب للإقامة لمدة ثلاثة أسابيع بمدينة بورتسودان لإنجاز هذا العمل لا بد أن تكون لي وقفة معها كذلك: في أن من الملفت الإنساني حول هذا المشروع هو الإنسانية والإحساس بوجودية الآخر (المعاق..) أنه جزء من هذا المجتمع (الأدبي/الفني أو الإبداعي) وليس كما يتم تأطيره بالمفهوم الإقصائي الخاطئي لفهم الإعاقة أن لها (مجتمعها الخاص بها/ المجتمع الناقص في صورته الإنسانية) ذلك في إقامة المشروع ورشاً للكتابة الإبداعية للأشخاص ذوي الإعاقة السمعية والأشخاص ذوي الإعاقة البصرية. ولطالما أني أنحاز للإنسانية وأؤمن بالإبداع الفائق للحدود غير المتوقعة عند (المعاقين..) بمختلف نوعيتهم الإعاقية و(السمعية) منها خصوصاً من خلال معرفتي وصداقتي بالبعض منهم عن قرب من خلال إقامتي – حينا لم أجد مكان إقامة بالخرطوم – لمدة شهرين بإتحاد (الصم) محلية الخرطوم (فرع الصحافة) كان لي دافع بكتابة سلسلة مقالات عن الإعاقة فأنجزت من بينها مقال نقدي وحيد حول (تجاوز الشخصية المعاقة في الأدب) نشر على موقع (نخيل عراقي) بتاريخ السادس من أغسطس 2021. وهو ما يمكن أن نختصره في الأتي: أن (الشخصية المعاقة) يُكاد أن يكون متجاوز وجودها تماماً في الأدب. أم هنا من الجيد في هذه المجموعة أني صادفت توظيف الكاتب (للشخصية المعاقة) بين قصة (توْقُ الأيادي المُكَابٍدة) وهو ما يعد تمرد جيد عن الشكل المألوف للطبيعة الأدبية في إختيار شخوصها (أننا دائماً نفكر في ذواتنا) ولعل هذا ما يجعلني أدين (المجتمع المنظور له بعام) لأوجه سؤالي الوجيه له: لماذا يتم إدراج لغات أجنبية في مناهجنا التعليمية مثل الإنجليزية والفرنسية والعربية والألمانية وإلى آخره من لغات؟ بل لماذا يتم إدراج ما يسمى بمناهج العامة اللغوية في المؤسسات التعليمية العامة ولا يتم إدراج لغة (الإشارة) للعامة من الطلاب!؟ هل فعلاً (المعاقين سمعياً) مثلاً ليسوا جزءاً من (مجتمعنا العام)!؟ ربما أو من المؤكد أن مع تجاوزنا لأن تصبح لغة الإشارة خاصة (بمجتمع الصم والبكم) وحدهم هو ما يدل على أننا نؤكد بشكل مباشر إقصاءنا لمجتمع (الصم والبكم) عن (مجتمعنا العام). فمن الحق الإنساني أن تُدرج لغة الإشارة ضمن مناهج العامة كم من الحق الإنساني أن تدرج مناهج العلم النفسي والإجتماعي (الخاصة بذوي الإعاقة عامة) في مناهج العامة للحد من الكيفية السليمة التي ترشد الجميع لحسن التعامل مع (المعاقين..) والتفريق بين إعاقاتهم المختلفة ؛ فهناك دوماً يظل (خلط) سيء يولد إفراز بالشعور النفسي المؤلم لدى (المعاق) حينا نحدد إعاقته بكونه (معاق) وكفى، ذلك دون أن نحدد نوعية إعاقته (سمعية، بصرية، حركية، عقلية..الخ) فالإكتفاء بكلمة (معاق) هو ما يعني أنها كلمة شاملة لكل أنواع (الإعاقة) ولعل من هنا ما يتوالد الشعور النفسي المؤلم لدى (المعاق) الذي يعيش صراع الأمرين (النفسي والإجتماعي الجانح من النفسي نفسه).

مدارسة النصوص من حيث تبايناتها:

— من غير الواضح الذي يحتاج إلى ملاحظات دقيقة: هو أن فضاء الزمكان في بعض القصص قدم عبر تقنيات ليست الأولى من نوعها كتجربة تقنية في القص لكن يمكن أن ندرجها مع ما هو (حداثوي) وهي أن يحدد الزمان أولاً عبر الظواهر الرقمية مثل (فيسبوك وماسنجر) أو شخصيات مرموقة لها إرتباط في الصنعة الرقمية للمواقع مثل شخصية (مارك) مخترع (فيسبوك) أو مثل ما ورد في قصتي (السقوط إلى أعلى/وخروج نهائي) وهذا ما يعبر عن (حداثوية) بعض (النصوص) زمنياً التي حدد فضاء زمانها بذلك. كذلك فضاء المكان لم يشار له بالإشارة المباشرة أو المسمى الواضح الأصل بل تمت الإشارة له عبر الشخصيات المرموقة والشخصيات التي تشغل عملاً خاص بين ساحات مفتوحة مثل شخصية (نانسي عجاج) وشخصية (ست الشاي) وهو ما ورد في قصة (السقوط إلى أعلى). ذلك بعكس ما ورد في قصة (الخيار الثالث) أن المكان تم تحديده مباشرة (شارع عبيد ختم): أي على أحد جانبي شارع (عبيد ختم) أحد شوارع المدينة التي تضج بنا. صفحة رقم 49.

على العموم في كثير من القصص يظل بشكل أعمق (جوهر المكان) فيها: (ما هو داخل النفس) وهذه ما تعد واحدة من التقنيات الأدبية الحديثة أو المبتكرة كذلك في فضاء القص. أيضاً من ما هو يحتاج للتدقيق أن (الحوار) أتى ذاتياً فيما نشير له (بالمنولوج) وهو أمر يتماشى مع الإنعكاسات النفسية لأبطال القصص ومع فضاء المكان، أو هو ما يعد إلتزام بالأداة النقدية الجامدة (من الجيد أن تكتب القصة القصيرة دون حوار). فتوظيف الحوار هنا كان موفق بدرجة ممتازة. فعلاقة الشخوص كانت بذاتيتها (داخلياً) أكثر من علاقتها بمحيطها و((مكانها)) الآخر إن إفترضنا لها (مكان آخر خارجي) – وهو أمر له وجودية إفتراضية بشكل أو بآخر إن كانت النفس من الداخل تشكلها العلاقة من الخارج (إرتباط المكان الخارجي) لكن يظل من حيث الشيء الجوهري أمر غير محسوس أو أمر ظل بمثابة (غربة) أو (منفى) بمجريات شكلية النصوص التي تم إبتكار فضاء مركزي لها (ما بداخل النفس).

— لقد أشرنا في مبدء الأمر إلى أن (الإنسان) في (عذابات الملاك الأسمر) يعيش (صراع داخلي يحيل صاحبه للموت أو الإنتحار) فكلمة (الموت) و(الإنتحار) وردتا في عدة قصص كدليل لرفض شخوص (الطيب قرشي) للحياة! لكنهم في كل محاولة لفعل الهروب منها كفعل نجاة يتنازلون عن فعلتهم في اللحظة الأخيرة لخوفهم من الأمر المجهول أو لإحساسهم بوجود شيئاً يستحق البقاء من أجله؛ في الغالب هو امرأة إن لم يكن إيماناً بالوجود ومنهج العيش الذي طرحه الدين الذي من ضمنه تحريم قتل النفس..الخ أو أن الكاتب جعل لنهاية أبطاله أن تكون مفتوحة الإحتمالات (كلاً يفكر بطريقته الخاصة في مصائرهم الأخرة). وهو ما نفسره بأنه صراع يأتي نتيجة (للحياة الإجتماعية) غير الرحبة وسط المدينة، فإنسان الكاتب (الطيب قرشي) هو إنسان (متمدن) منكفئ على ذاته أو معزول حتى عن ذاتيته المرفوضة لأسباب مبهمة وبعضها واضحة؛ يعيش في الإطار الخاص الضيق (بين غرف خاصة مغلقة ومتوحدة) وفي الإطار الواسع العام بين مدن جوفاء من الحياة الإجتماعية التي يصاحبها غياب الحنين والعطف والتوادد والتراحم..الخ حتى أحلامه تتمنى فيها نفسه لو أن تتحول إلى قط أو أخطبوط أو في العموم إلى حيوان أو إلى إنسان مثلها يقدم على (الإنتحار)! ؛ فبشكل مدهش يمكن أن نشهد نتيجة لذلك كيف (أنسنة) مريم بطلة قصة (توق الأيادي المكابدة) الطيور والحيوانات الأليفة والأشجار لتتعايش معها بدلاً من الإنسان الذي فشل هو الآخر – وليست هي من فشلت – في التعايش معه بمحبة وسلام لكونها تعاني من (الاختلاف) أو لكونها (معاقة حركياً) أو أن يديها (المعاقتين) يأخذين شكلاً غريب و((مخيف)) مثل صليب: وبذات التحدي كانت تجتاز محنة الساعات التي تقضيها وحيدة، إلا من قليل لحظات المرح التي تشاركها مع الطيور، وبعض الحيوانات الأليفة، التي لا تشكل خطرا عليها، والشجر .. حتى زمن قريب كانت مريم تحسب نفسها شجرة، مثل كل أشجار المدينة، التي تتعرض دائما، لتقلبات أمزجة الفصول، وهجمات البشر.
صفحة رقم 18

فالشيء الواضح في تماهي (مريم) للطيور والحيوانات والأشجار (أن تحسب نفسها شجرة)! هو الصورة العقلية السيئة للبشر المحيطين بها في مدى تفكيرهم وتعاملهم المؤذي نفسياً مع الآخر المختلف – أولئك البشر الذين يأذون حتى الأشجار – كما ورد في آخر الجزيئة القصصية المبتورة .. (وهجمات البشر)! لعل هذا التوظيف الفكري المدهش يعيدني من خلال الدراسات النقدية التي قمت بها لبعض الأعمال الأدبية العربية إلى ما ورد في رواية (سيمفونية الجنوب) إلى الروائي التشادي (طاهر النور) وفي رواية (روائح ماري كلير) للروائي التونسي (الحبيب السالمي) في علاقة الإنسان مع الطبيعة المتصالحة منها والمتوحشة كذلك .. ومثل ما ورد في رواية (الهميم) للكاتب والناقد السوداني (مجذوب الشريفي) وهي من الروايات التي دارستها قبل النشر: حيث تجلت بينها علاقة الإنسان مع الطبيعة فيما ما سوف أسميه بدهشة (الترميز) أو (أنسنة) الكائنات التي تجلت لنا في وصف مثير للدهشة والدهشة..(فأمعنت في إذلالنا بطرق لا يدركها أحد ولا يعاتبها عليها كائن رغم أن الهوام وحشرات الليل رفضت أن تشاركها التعذيب والمطر أبت أن تنزل قطراتها، حتى البرد لم يكشر عن أنيابه إلا قليلاً)..

هذا ترميز أو (أنسنة) تفوق الحدود المتخيلة لطبيعة المخيلة البشرية في أن ترفض الحشرات مشاركتها في التعذيب حينا تحيل نفسها لمقام (الإنسان) الاخلاقي (ذا السلوك الحميد) ، وبصورة أخرى أن ترفض الحشرات (اللاواعية/اللاعقل لها) نفسها إنحيازها للشر هذا ما يدعو للقول (أن هذه المرأة سابقة المتوحشين بمسافة) وهذا ما يتأكد في خلال ما ورد أن الهوام أو الآفات المؤذية للإنسان نفسها وقفت ضد تلك المرأة كما المطر نفسه (الذي لا يرى ولا ينطق ولا يفهم مثل الإنسان) يدعو للعنتها ، وكما البرد يخوض ثورته ضدها ! – ربما هذا وصف مثير للتعجب يحسب لسعة فكر الكاتب. وهنا ما يجعلني أفخر كثيراً من حكم أدواتي النقدية المتواضعة بالتقدم الكبير للأدب السوداني من خلال ما أظهره (الطيب قرشي) في هذه المجموعة التي كتبت بعقلية أدبية مدهشة في تصورها أو (فكريتها) التي تمثل وجهاً آخر للصورة الأدبية العالمية عند ديستوفيسكي وكافكا في خلق علاقتهم الأدبية بالعلم النفسي. ولكن بما أني طليع أدبياً ونفسياً أو طليع بعلم النفس أكثر من أي علم آخر قد ألحظ إلى أن الكاتب بما أنه نجح في تشكيل البعد النفسي (داخلياً) أو إفترض فضاء غير تقليدي (داخل النفس البشرية) إلا أنه انتقص من الصورة المتكاملة للنفس البشرية (أبطال عمله) عبر تجاهله للفضاء (الخارجي) فمن ما هو متعارف عليه في العلم النفسي أن معرفة الشخصية بالشكل المتكامل يحتاج إلى تصوير بعدها (الخارجي) كما هو (الداخلي) ففي علم النفس الجنائي تحديداً هناك معايير متفق عليها عند أغلب علماء النفس البشري الجنائي في أن (الشخصية الإجرامية) تُحدد من عدة علامات شكلية أو من محددات بيولوجية تفسر السلوك الإجرامي مثل (النحافة، الطول الفارع، صغر حجم الجمجمة، كبر الأذنين، الخصائص الجنسية الثانوية الشاذة، ضخامة الفكين، بروز عظام الخدين، وضيق الجبهة وانحدارها..الخ) وهذه ليست مؤشرات تؤكد بشكل مُطلق أنها تمثل إستدلال على أن صاحبها مرتكب للجريمة لكنه (مستعد) لإرتكابها. أي ما كان ينقص الصورة المتكاملة لشخوص (الطيب قرشي) هو الأفعال أو الشكليات الخارجية أو المحيطات الإجتماعية بالشخصيات التي كانت تقبل على الإنتحار أو تتمنى الموت .. ولعل هذا ما يجعلنا نتسأل: ما المسببات الخارجية أو المحيطة بالشخص التي أدت إلى تفكيره في (الإنتحار) إذ فهمنا أن (كل إفتعال أو صراعي داخلي مبني في الأساس من صراع خارجي)!؟
إذ إفترضنا أنه (الحب) لا بد أن تكون هناك أسباب واضحة داخل (الحب) نفسه أدت للإقدام على الفعل الجنائي الذاتي (الإنتحار) وهنا من ما هو واضح أن كل محاولة لتفصيل الأسباب هو ما يجنح بالعمل نحو (القصة الطويلة) أو (الرواية). لذا أظن كل محاولة للغوص في التفاصيل النفسية هو ما يحتاج للغوص فوق المقابل في تفاصيل التفاصيل لذلك قد نشهد أن أغلب الأعمال الأدبية الروائية التي نالت قبول أدبي واسع اهتمت بأدق التفاصيل أو كانت ذو أحجام كبيرة فصلت المنسي والهامشي والمتجاوز حتى مثل رواية (الجريمة والعقاب) لديستوفيسكي التي أتت في عدد 980 صفحة من القطع المتوسط (للنسخة المترجمة عربياً).
فما هو غايب عن اللوحة الأدبية بصورة أشمل وأوضح لتتشكل كلوحة واقعية متاكملة المشهد – لا تجريدية أو سريالية – كيف هي كانت حياة الشخوص أبطال القصص الخاصة والحياة العامة التي تحيط من بينهم أو بين مجتمعاتهم؟ خشنة يملاها الفقر والجوع والتشرد وتحيط من حولها الحروب أو لينة يسود من بينها الرخاء؟ وكيف كانت طفولتهم؟ هل كانوا مُدللين أم عاشوا طفولة مأسوية جارحة؟ ما هي درجات ذكائهم ودرجاتهم العلمية والثقافية؟ مثل هذه الأشياء كان يستوجب أن تلتبسها الشخصيات التي شهدناها في حالة (ضبابية) ؛ ليفهم القارئ ماهية المرجعيات التاريخية الخاصة بهم والعامة التي شكلتهم بذلك الإحباط الذي يدفعهم لعدم رغبتهم ((بالحياة)). أي للمرة الثانية أريد أن أؤكد أن عملية التحليل النفسي التي تأخذنا إلى خلق شخصية حية متكاملة: تتكامل من رسم شكلياتها الخارجية وهذا ما يدعم أن قصص (الطيب قرشي) هي تمثل (بداية) أو (مدخل) لروايات متعددة أو (قصص طويلة) .. ولعل قصة مثل (تقمص) هي ما تمثل إلى ما أشرنا له وتمثل واحدة من أجمل القصص التي وردت ضمن المجموعة من حيثها تضمينها للبناء الداخلي للنفس والخارجي لها وما يحيط بها من مؤثرات ساعدت في بنائها النفسي والفكري ودهشتها الكبرى في إزدواج الصورة البشرية والحيوانية في شخصية واحدة (بطل القصة) الذي أحال به الكاتب في أحيان صورته إلى (قط) وهو في الواقع أمنيته الجوهرية أن يكون بذلك! تمثيلاً لرفضه لكينونته البشرية نتيجة (للكبوت الذي يعيش فيه) أو أن القط نفسه من الأفضل له أن يكون لا شيء من أن يكون إنسان عبثي بلا فائدة ممكن أو حياة ممكنة ، فهناك عدة مفهوميات لأبعاد النص الذي كتب بإسلوب (الرمزية) الأدبية.
كذلك فيما يتماثل مع ما أشرنا له هو (الفضاء النفسي الخارجي) لبطل قصة (حدس) التي هي أقرب (لخاطرة) من كونها (قصة قصيرة) حيث يتضح من العلاقة خارج النص ومع داخله أن بطل القصة هو (الكاتب) نفسه الذي يصف المدينة الجديدة التي يقيم بها (واصفاً) أو أقول (مشيراً) بدلاً من (واصفاً) فكلمة (وصف) لها مدلول شمولي أوسع للإنعكاس أو التصوير (الزماني/المكاني/الشخصي..الخ) إلى بعضاً من الثقافات والأعراف لأهلها كما (مشيراً) للبحر والأماكن التجارية المراصفة له والفندق..الخ في تداعي لإتباع إختيار (فضاء المكان) المجرب (التقليدي) الذي تتوالد منه المشاعر النفسية التي يمكن أن يفهم منها من ضمن العملية المتكاملة لفهم النفس البشرية جزئيات من الدوافع الشخصية (الإجرامية) و(العاطفية) وإلى آخره.

تعليقات
Loading...