البروف هشام عباس يكتب: كلمات في حق الراحل البروف علي محمد عبدالرحمن بري.

الخرطوم:مرايا برس

لا زالت تلكم الأيام الجميلة عالقة بالذاكرة…أيام بناء ونهضة وتأسيس مؤسسات التعليم العالي بولايتي الشمالية ونهر النيل…في العام 1990 نشأت جامعة وادي النيل سامقة خضراء وارفة تغطي أغصانها مدن حلفا، دنقلا ،مروي، كريمة، بربر، عطبرة، الدامر، شندي والمتمة، وياليت تلك الأيام تعود بألقها وهمة ناسها، وياليت جامعة وادي النيل بقيت كما هي ممتدة على طول النيل في نسق إداري وأكاديمي واجتماعي منسجم ومتفاعل، تشاء الأقدار أن تنشأ من هذه الجامعة في العام 1994 ثلاثة جامعات ،هي جامعة دنقلا شمال الشمال، واحتفظت كليات بربر وعطبرة والدامر بالاسم الأصل (وادي النيل) في وسط الشمال، ثم جامعة شندي في جنوب الشمال.

 كان الجيل الذي عاصر نشأة هذه الجامعات وصنع أمجادها يتسم بالتفرد والايمان بقضية العمل والهدف ، هم أساتذة كرام نعتز ونفتخر بزمالتهم عملوا في أقسى الظروف، وأحالوا بصبرهم وعزيمتهم الأحلام الى واقع ، والصحارى الى حقول، والرياح الى نسائم عليلة.

 كان البروفسير علي بري أحد هؤلاء العمالقة الذين كتبوا تاريخاً ناصعاً في كتاب التعليم العالي في السودان حيث قاد التأسيس في كلية الطب بجامعة وادي النيل (الأم)،وصارت بعد ذلك النواة لجامعة شندي والتي أصبح المدير المؤسس لها، واصبحت كلية الطب بجامعة شندي رائدة في التعليم الطبي في السودان والمحيط العربي والأفريقي بل في كل العالم من خلال خريجيها الذين أبرزوا تفوقاً ونبوغاً في الامتحانات الدولية

 لم يعرف البروفسير- علي بري حياة المكاتب الإدارية ، فكان دائم الوجود في الميدان، تجده  وسط المباني الجديدة متابعاً بنفسه الانشاءات، وذلك ينطلق من رؤية عميقة جعلت شندي الآن من المدن المتقدمة جداً في الخدمات الطبية في السودان ، وإستطاع إنشاء أول مستشفى جامعي خارج الخرطوم هو مستشفى المك نمر الجامعي التابع لجامعة شندي بمراكزه المتطورة وخدماته الراقية التي أكدت قدرة الجامعات على ادارة المؤسسات الطبية بل تفوقت في ذلك وكسبت ثقة المواطنين، وجعلت من كلية الطب بجامعة شندي تجربة فريدة تستحق التأمل والدراسة ويًسر الطريق للجيل الحالي الذي نحييه على إنشاء مستشفى الأورام ليكون امتداداً لمركز الكلى والقلب بالجامعة، وياليت الأستاذ (علي النقي)  أول مسجل لهذه الكلية يكتب عن تلكم الحقبة.

 بعد إنشاء كلية الطب بجامعة وادي النيل (الأم)  جاء دور جديد للبروفسير علي بري وهو إنشاء جامعة شندي حيث أصبح الرائد بها ووضع بجانب مجموعة طيبة من الأساتذة الكرام اللبنات الأولى لها وقدم تجربة ادارية فريدة وظف عبرها سماته الشخصية من نشاط وحيوية ، وبذل كل وقته من أجل الجامعة ، فإن لم تجده بها، تجده في مشوار ومهمة تخص الجامعة، كان البروفسير – علي بري قوياً صارماً في حقوق الجامعة ،لا يُلبس الباطل بالحق، صريح الرأي، شجاع في قراراته، ومع ذلك كان ودوداً عطوفاً كريماً حد سقف الكرم ،يوزع راتبه في عفوية وصدق وإيثار،كان البروفسير- علي بري يحتفظ بعلاقات خاصة مع البسطاء العاملين بالجامعة، كانوا يحبونه ويهابونه في نفس الوقت، هي تقنية إدارية قليل من يمتلكها، كان  البروفسير-علي بري يمارسها  بعفوية فهي جزء من طبائعه وخصاله

 لم يكن البروفسير- علي بري إختصاصي جراحة المخ والأعصاب والأستاذ الجامعي مديراً فقط لجامعة شندي، بل كان قائداً مجتمعياً في كل ولاية نهر النيل والسودان ، نجده في جلسات الصلح والأجاويد ، وفي الأفراح والأتراح ،نجده في المراكب  والبنطونات  والشواطئ والجذر، نجده في القرى والبوادي والمدن، كان رجلاً اجتماعياً عميق الأثر ، وخطيباً مفوهاً، ورجلاً مقدراً محترماً صاحب كلمة في مجتمعه.

 لم تنحصر مساهمات البروفسير – علي بري على جامعة شندي فحسب ،فعندما تم تعيينه أميناً عاماً لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي قدًم أروع المواقف الادارية ، وعمل على ترقية اللوائح والنظم بالوزارة، ويكفيه فقط أنه صاحب قرار الإلتزام بمعدل الشهادة السودانية عند توثيق الشهادة الجامعية، وهو قرار حافظ على هيبة وسمو الشهادة الجامعية في السودان .

 أكتب ذلك وقد رحل عن الدنيا البروفسير- علي محمد عبد الرحمن بري قبل أربع سنوات،وهو أحد أشهر أساتذة الطب وجراحي المخ والأعصاب، نال الفقيد الدكتوراة في جامعة السويد وكان أول أجنبي ينالها قبل المدة المحددة بستة أشهر مما إضطر إدارة الجامعة لمخاطبة الملك والذي أصدر مرسوماً ملكياً باستخراج شهادته قبل الوقت المحدد له، وكان قد كتب على الدعوة الرسمية في حفل تخرجه بالسويد ( نرجو عدم اصطحاب الخمور مراعاة لمشاعر المحتفى به).

 رحل البروفسير- علي بري ولن ترحل معه تلكم القيم التي تركها ، والعزاء لكل أهله في (البرياب) بود مدني و(حجر الطير) و(ود حامد ) و(البسابير) و(كبوشية ) و(شندي)  بولاية نهر النيل، وكذا العزاء لكل أسرة جامعة شندي وجامعة وادي النيل ، ولرفقاء درب الفقيد جميعاً ونخص بذلك البروفسير- يحي فضل الله مختار، والدكتور الطيب القاضي وكل فريق التأسيس بجامعة شندي ، وكذا العزاء لرفيق دربه مدير جامعة وادي النيل في تلكم الفترة البروفسير- محمد حسن أحمد سنادة متعه الله بالصحة والعافية وهو قصة أخرى من البذل والعطاء والزهد والتفاني في العمل .

 إنها دعوة مكتوبة بحروف الرجاء لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي لتنظيم إحتفال باليوبيل الفضي لهذه الجامعات في الولايات والتي بلغت جميعاً سن الشباب والحيوية والانطلاق أكثر من(25) عاماً وتكريم الرعيل المؤسس لها وهي رسالة حب وتقدير وإعتراف بالجميل واجبة علينا في زمن عزً فيه الوفاء.

 إن الحياة الأكاديمية والإدارية والإجتماعية  والبحثية للراحل البروفسير- علي محمد عبد الرحمن بري تستحق أن تكون مادة تدريبية لكل المتطلعين الى عمل تأريخي في مؤسسات التعليم العالي ، رحم الله فقيد السودان الرجل الإنسان العابد النشط المتطلع للخير والتطور والنماء البروفسير- علي بري. ولا نقول في ذكرى رحيله الرابعة إلا

(إنا لله وإنا اليه راجعون).

تعليقات
Loading...