الرفيع بشير الشفيع يكتب:عند بيتك العتيق

الخرطوم :مرايا برس

عندما قال إبراهيم عليه السلام، ربنا أرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، كانت تحدوه نفس الأشواق الإيمانية التي تعتري المؤمنين الآن ، وهم يتحرقون للقاء الله في بيته العتيق.
إنه الشوق للمناسك، وللكعبة، المنبر المادي الوحيد الذي يمثل عِمادا ينتصب في الأرض ويتصل بالسماء، بقعة مباركة قواعدها، ميمونة حوائطها، تثبت عندها القلوب الواجفة، وتهدأ فيها الوجدان الراجفة.
كان هنا الانبياء حقيقةً وعملا، يتعبدون ويتنسكون في محاريب الله ومنائره، هنا الدلالة الرمزية البائنة، على واحدية الله ووحدانيته في ملكه للكون، ووجوه الناس تتقاطر إليها بوصل رحيم، وتتداخل أصوات التسابيح، وتسمع حنينها لله في إيقاعٍ صادق وبديع .
إنها مثابة الله لإبراهيم وإسماعيل، إذ يرفعان القواعد من البيت ويؤبان إليه ، (ربنا أرنا مناسكنا وتب علينا إنك انت التواب الرحيم) ، وهي نفس أشواق أم إسماعيل إذ تسعى بين الصفا والمروة، ترفل بين رحمة الله، وتَرمُل لآجئة إليه، باحثة عن صديق حينما إنعدم عنها الصديق ، ورفيقا حينما عمها الضيق ورباً رحيما ، حينما خابت الارباب وغابت شموسهم.
إنها أشواق الحجاج والزائرين والعابدين والركع السجود المتواترة الوصال ، من آدم عليه السلام والى اليوم ، رحمة متنزلة ووصال دفيء ، أشواقهم تسبقهم الى عرفات وحجر اسماعيل واستار بيتك الحرام ، وهم يتخلون عن الدنيا ، في حجهم بأرواحهم إليك، وفي سمو أنفسهم، في إِترابهم، في خببهم نحو الله، في توسدهم التراب في منى ، وفي تطلعهم للحق، وضراعاتهم في عرفات، في رميهم الشيطان بجِمار الصراع الأبدي مع عدوهم الأبدي، في تحللهم من ادران الدنيا وأردان أعبائها، في تضحياتهم وأضحياتهم، في فرحهم الغامر بالتقرب الى الله ، وبشريات عفوه ورضاه، في تجردهم من محيط ومخيط الثياب كتجردهم من محيط الدنيا بآثامها، وذنوبها، بإغتسال أنفسهم عن الطمع والغرور، وبشفف الحكايا مع الله الذي يعلم كل شيء، نجفو فيصبر، ونغلو فيغفر ، ويرزق فنكفر، ويعفو ويُبَشِر.
كان هنا أبو الانبياء، يترك من ذريته بوادٍ غير ذي زرعٍ ، عند بيتك المحرم ، ولا زالت بركات دعواته تتنزل ، ثمرات وأمنا على الذين آمنوا ، ألا يردوا فيه بإلحاد وظلم ، ،و كان هنا الذبيح، يحفر بقدميه زمزما، فتنبع بإذن ربها غدقا ورغدا وبركة، كانت هنا أمه المتصبرة، المنقطعة الى الله حينما جفاها الناس وابتلتها الأيام بالصقيع، تتصعد روحها شوقا لرحمتك وكنفك بين لأبة الصفا، ومنحدر المروة ، كان هنا سيد الأنبياء محمدا ، يرفل ببهائه وإهابه النضير، يرث البيت، ويرسل السماحة والعفو، إذهبوا فأنتم الطلقاء، ثم يبتهل إلى الله مخبتا وباكيا، وكانت هنا ضراعات الصحابة، كان الحب والإلتصاق بأستار الكعبة، كالأطفال يلتصقون بأثواب أمهاتهم، والناس تلتجيء لله كما ألتجأت هاجر، في ثيابهم الوضيئة، يبحثون الأمن والسلام والمغفرة.
كانت هنا صراعات الحق والباطل، كان الكافرون يتقربون هنا لله زلفى، وهم يجنون الخيبات ويرجعون بالعدم، حدود إيمانهم وتعبدهم حجارة وعٍجى ، وقد ضلتِ النفوس وغفلت العقول وخابت، وكان هنا نهايات الجبارين، كانت خيبة أبرهة والقرامطة، وكانت دعوة ابو طالب، للبيت رب يحميه، توكلاً ولجأ، وتنزلت هنا الآي والنُهى والبصائر من الله، وعّم الضياء أرجاء الكون ، وكان هنا الأمر من الله ، أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود، كانت مهابة الله، ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم.
هنا تتنزل البركات وتتقاطر الرحمة، وتتزود النفوس بالسمو والعفو والقُربى، وهنا تنتهي الوجوه في صلواتها لقبلةٍ ما أزكاها عند الله من قبلة، وهنا تتقلب الوجوه لرب الوجوه ، تتزود بالضياء، وهنا تصعد دعوات الحجيج لله في سماواته العُلا، إنهم يأتونك تنوء جنوبهم بالذنوب، وتتعثر خطاهم بالخطايا، وتتفصد مساماتهم بعرق الرجاء ، ويرجعون من رحاب بيتك كيوم ولدتهم أمهاتهم .
هنا تسري مياه زمزم بين صخور مكة ، تشهَدُ على صدق المكان والتاريخ، وصدق القرآن والرسالة، وتحتبل زمزم بمياه القدسية والبركات ، وِصالاً سرمديا يشهد على رحمة الله على الآيبين والمتوكلين ، عندما تنقطع الرحمة من البشر ، و عندما تقنت روح هاجر، وعندما يتوكل إبراهيم حد التوكل.
اللهم يا منزل ، والضحى والليل إذا سجى ، ما ودعك ربك وما قلى، تطييبا لخاطر نبيك الكريم وتطمينا، اللهم لا تُودِعنا لذنوبنا فنَزِّل ونُذل، ولا لمنطقنا فنضل، ولا لأنفسنا فنتيه ونتوه، ولا تحاسبنا بما فعل السفهاء منا، اللهم أرحم يتمنا إليك وحاجتنا اليك ، وأكنفنا بهداك ، وآونا في غِطاك ، وأقنِعنا بعطاك ، وردنا عن الضلال والعَمَه، وأهدنا من العمى ، اللهم افتح لنا أبواب رحمتك، وأبواب حرمك تأوي إليك النفوس وتهوى، ولا تحرمنا من التعبد في محرابك العتيق.

تعليقات
Loading...