الرفيع بشير الشفيع يكتب : أحمد الدليل…عبق من تاريخي لا يخبو ورحيل للماضي لا يُمَل

الخرطوم :مرايا برس

كل ما أتيت السودان وأحتجت لأفتح قنينة خاصة من عبق تاريخي وصباي ، وأتزود من مخزون الوجدان النضير ، زرت صديقي وقريبي أحمد الدليل ابن خالتي بت ديومة.

كنت حينما أزور بيوت آل الدليل وخالات بنات ديومة ،وانا صغير ، كنت أشعر بأن هناك غيمة حميمة من الحب تظلني ، وأطياف من الابتسامات الوضيئة الطيبة ، ونوعٌ خاص من الاحترام المشوب بالحياء يلفني ، وكانت الأحضان تحفنا بالشعور بالأمومة ، ولا أبالغ اذا قلت أنني أشتم في أحضان هذه العائلة ، عبق الرحم وأطياف الرحمة.

هنا تشكلت شخصية أحمد ، وهنا ورث الطفل والشاب تلك المعاني والسجايا وهنا رضع الفطرة السليمة ، والتهذيب والأدب والمعاني الطيبات

الصبي الذي يحمل حكمة مؤمن وقلب فارس ووداعة طفل وحلم إياس ، كان معي صحبة طيبة ، نبيلة وعديلة ، وصداقة حميمة ، وكان دفئا وودا وتواصل وإخاء ووصلا لا ينقطع عن الدواخل ، ووضاءة لا تخبو لا تنقصها الأيام والملمات ، قطعنا سوياً المسافة بين قوز النقارة وبين مدرستنا الأولية مئات المرات عند البكور وأوقات السحور ، ونحن اطفال في السابعة والثامنة من العمر ، كانت خيوط الشمس تُكحّل أعيينا الوديعة من الوسن ونحن نتمايل نعاسا على دوابنا ذهابا للمدرسة ونأتي وقد أخذ الإرهاق منا أيُّ مأخذ ، وكانت رحلتنا تقتصرها حكايات الأطفال البريئة المنسوجة من العدم والمرقوعة بالعشم والأمل والتطلع والرجاء ، غير أننا كنا صغاراً لا نعرف معنى المدرسة والدراسة والعلم والتعلم وما هي أهدافه ، لكنا نلتزم بالذهاب للمدرسة، وكان أحمد حادي الركب يشدنا للحرص على الذهاب رغم العناء وقلة المعين من الموجهات للرغائب ورغم قلة الموجهين لتلك المعاني.

كان أحمد دليلاً صغيرا في عمره وكبيرا في معناه ومغناه ، كان حاديا وأميراً بمعنى الكلمة ، والطفلُ أحمد كان يدهشني بحكمته وعقليته وتهذيبه ، والتوجيه للحق والفضيلة على صغر سنه ، وكان وهو في ذلك العمر ، يعرف العلاقة الرحمية بين خالتي بت ديومة وأولاد الدليل وأمي وكل أهلنا في المنطقة ، وكنت أعجب أين ومتى وجد هذا الطفل هذه المعرفة وهذه العقلية التي كان يميز بها بين الحق والباطل وبين الغث والسمين، وللحق فإني معجب غاية الإعجاب بأحمد الطفل وأحمد الشاب وعندما شاب ، والرجل يتبرأ من الدنيا ويَعّف ويتطهر ولا تلين له قناة.

لكنه أحمد وله من إسمه نصيب كبير ، وكان حقاً، أحمدٌ في كل شيء، الطبع الهاديء والطبيعة الجاذبة وحسن المقام، والمقال، وهيبة الحكماء، والوعي الذي يصاحب الرجل كل هذه السنين ، وعيٌ لا تنقصه عاديات الزمان ، وكان وما زال حفيّاً بدينه ، صابرا وكبيرا في نفسه ومعانيه ، لا تنقصه متغيرات الأحداث ولا نزكي أحمدا على الله.

زرت صديقي وأخي أحمد البارحة مع أسرته الطيبة ، وقد أكرمه الله بكّف البصر رحمة ونعمة لا يحسد عليها ، تحجيه وتحجبه عن رؤية ما نحن فيه ، وتغنيه عن ما وصل اليه الحال ، لكّن الرجل لا زال يتمتع ببصيرة متقدة ، لم ينقصه بصر ولم تفّل من عضده الإبتلاءات التي أصابت روحا لطيفة وصدرا رحبا ، ولسانا شاكرا عابدا وقلباً تقيا نقيا ، فلا تزيده الإبتلاءات إلا أجراً ورفعة ومكانة عند ربه وعند الناس، تقبل الله منه، ولا نزكيه على الله.

كنت أسترق النظر الى وجهه الرحيب من حين لآخر، لأقرأ فيه نفس معالم الإباء والطهر في اللسان والجنان وحب الناس ، ونضح الدواخل بالذكريات الطيبات، من مخزون الجمال ايام الطهر والعفة والخصال الطيبات ، هذه الخصال التب تمثل عنده مبدءاً ومعاني كّف الله عليها بصره فارتكز في بصيرته ، ذخرا نضيرا من أيامنا السالفات، يوزع بها الخصال الطيبات ، كنت كل ما نظرت اليه ، أختصرت السنين في وجهه وصوته ، لأتذكر تلكم الايام البريئة التي أطرّت شخصياتنا وركّزت فينا معاني الطهر والفضيلة والتعقّل ، والصدق والإباء، وكان أحمد فيها الشادي بالجمال والحادي بالخصال والطيب الوصال ، ولا ازكيه على الله.

أسأل الله له العفو والعافية والقبول .

تعليقات
Loading...