لم يحالفني الحظ لزيارة أديس أبابا في رحلة معاكسة من ملتقى النيلين إلى المنبع، لكنني قَدِمتُ إليها من شط الخليج تسوقني أشواق التاريخ ونداء الحبل السري وآثار ملك عظيم كان لا يُظلم عنده أحد، وصلة الجوار وروابط التاريخ وإيقاعاتها التي جاءتنا منسابة مع مياه النيل.
تجربة الهبوط على هضبة تحفز الخيال..من نافذة الطائرة ألمح أضواءً تلتمع على الأرض، ذلك يعني أننا على وشك الهبوط في أرض النجاشي..الليل يلف المدينة الغافية مع أحلامها..مطارها بولي الذي كان يعرف سابقا بمطار هيلا سلاسي، مطار قديم بأثاث باهت وموظفون يغالبون النعاس..أصبت بالوجوم وثار سؤالٌ في خاطري هل يُعقل أن يكون مدخل كل ذلك التاريخ هذا المطار الصغير المتهالك؟ لكن المدينة ادخرت لي المفاجأة عند المغادرة بمطار دولي حديث الطراز وفسيح الصالات وسيتم إلغاء المطار القديم كليا…سيارة التاكسي زرقاء اللون والتي أخذتني للفندق متهالكة هي الأخرى، لكني رأيتُ في عيني سائقها بريق أمل في غد أفضل..
أطل الصباح بهواء الهضبة الذي ينعش الروح..في بهو الفندق وبطبع ملوكي قَدمتْ لي فتاةٌ إثيوبية بوجه طلق فنجان قهوة من غرس بلادها الذي به تفاخر، والمشهد البانورامي من خلفي يكشف ملامح وجه أديس أبابا..خرجت متجولا في ساحة بولي قلب المدينة..صوت موسيقى سودانية ينبعث من مقهى ضاج بالحضور.. توقفت.. فإذا بصوت الفنان الكبير محمد وردي يصدح بأغنية 19 سنه، إلياذة الإثيوبيين الأثيرة إلى قلوبهم..نفوس منشرحة ووجوه منبسطة وأجساد تتمايل وجدائل شعر تعبث بها أنسام الهضبة وهي تردد.. (عطشتي قلبي وكل يوم تتجملي، أديني كلمة وسامحيني وطَوّلي) ..لا بأس من أخذ فنجان آخر من (البُنة).. قهوة الأحباش كثيفة المذاق على هذا المشهد الخرطومي..
تسفاي،،خريج جامعي يقود سيارة أجرة ظل يرافقني طوال أيامي في الزهرة الجديدة.. ذات صباح ندي قال لي يجب أن تزور قصر الإمبراطور منليك مقر سلطة أباطرة إثيوبيا.. القصر أعلى هضبة..عتيق وقرون ممتدة من التاريخ توالى عليه أباطرة الحبشة حتى أصبح مزارا، في ممراته تطالع مسار إثيوبيا منذ فجرها الأول وتلمس نظاما إمبراطوريا شديد الصرامة من متانة جدرانه وأعمدته ودقة تصميمة.
من أعلى جبل أنطوطو الملفوف بالخضرة في الخاصرة الشرقية للعاصمة وبإطلالته الرائعة انبسطت أديس أبابا كلها أمامي وبدت لوحة ثرية الخطوط والألوان..مشاهد الحياة البرية تجلت لي في أبهى حُللها..قطيع من الغزلان البرية تتقافز كأنها تتراقص مع لحن الطبيعة والظباء الوحشية تزرع المروج جيئة وذهابا، والثعالب الحمراء طوقتها المشاهد ونزعت عنها أنياب المكر.
غادرنا أنطوطو وكان مقصدنا تجمع البحيرات في دبرزيت…الطريق وعرٌ وغير سالك لكن مشاهد الوديان والتلال والقرى المتناثرة تخفف وعثاء الطريق..دبرزيت بها خمس بحيرات ذات مناظر خلّابة ومياه عذبة ومناخ معتدل، ويكفيها أنها تجمع ثالوث الجمال، الماء والخضرة والوجه الحسن.
أصوات الإثيوبيين تشابه خرير شلالات الأزرق الدفاق في بحيرة تانا، منحدرة من أغوار عميقة، عذبة ورقراقه، تنساب دافئة في الوجدان.. ألحَّ تسفاي أن أكون ضيفا عليه ليلة مغادرتي أديس أبابا..دخلنا مطعما وسط العاصمة وفي ساحته الخارجية هناك مسرح للغناء.. النادل يطوف علينا بما لذّ وطاب من الطعام وفي صدارته الانجيرا بمذاقها المميز… تبادلتْ فرقٌ فنية الصعود على خشبة المسرح تؤدي أغنيات إثيوبية بأصوات تنثال رقة وعذوبة..
قفز تسفاي إلى المسرح وهمس في أذن أحد أفراد الفِرقة.. دقائق وطرق أذني سلم موسيقي سوداني، وجاءني صوت المصب معكوسا للمنبع بكل الهدير وكانت أغنية (عزه في هواك).. صاح الحضور وعلا التصفيق واهتز تسفاي وتبسّم، واسترخت مني الحواس..