الكاتبة اليمنية صوفيا الهدار تكتب قصة قصيرة بعنوان وسم.

الخرطوم :مرايا برس

شعرت باضطراب غير مسبوق حولي، وكأن محيطي قد ضاق بي، يريد أن يقذفني خارجه، يطردني بعيدا . هناك ما يطبق علي في ظلمتي، يدفعني نحو نفق ضيق، ينحشر رأسي ، أختنق، يستمر، دفعة أخيرة من الوراء، أو ربما كانت ركلة من الخلف، حتى وجدتني أعبر النفق، وأنزلق على سطح صلب بارد، وضوء ساطع يضرب عيني، أدركت أني الآن خارجا،  لكن خارجا من أين؟ لم أدر، وإلى أين؟ لا أعلم!
أحسست بمن يقترب من وسطي، وكأنه قطع كل ما كان يربطني بعالمي الأول هل كان يحررني من قيدي، ويطلقني من حبسي؟!
أو كان يتحرر مني، ويفذف بي  إلى المجهول؟!
لم أدر أي شعور اعتراني حينها، ولكنني حتما لم أرغب أن ينقطع ذلك الحبل أبداً !
خرجت من غربة إلى غربة، ربما هذا الشعور هو ما دفعني للبكاء!
ولكن هناك من حاول كتم أنفاسي، أرعبني، فقررت أن أهدأ وأركن للسكينة،
ففي ظلمتي الأولى التي ألفتها ولم تألفني كنت أيضا أشعر بالخوف والتهديد أحياناً، فألجأ للسكون، عشت هدوءا مضطربا،  كنت كالضيف غير المرغوب فيه!
أخيرا أفلتت فمي تلك اليد، وتركتني أتنفس.
بقيت ملقى هناك أرتعش من البرد، أحرك يدي بطريقة بلهاء، فمي يبحث عن شيء ما، وروحي تحتاج إلى حضن دافئ.
شعرت بأحدهم يطوف حولي،  لف جسدي العاري الذي تغطيه اللزوجة في شيء ما، ثم دسني بعصبية فيما يشبه الجراب الذي كنت فيه، ولكن لا أنفاس له ولا نبض.
شعرت بحركته وهو يأخذني بعيدا، أدركت ذلك من تغير درجات الضوء حولي، من الظلال التي تتناوب على بصري، من الأصوات التي تقترب ثم تبتعد.
أردت أن أصرخ، إلى أين؟ لكن أحدا لم يرغب في بقائي، فصمتّ.
كانت الحركة مرتبكة، قلقة، ثم توقفت، أحسست بجسدي يلقى على سطح صلب من جديد،
شعرت بابتعاده عني بخطوات سريعة، كنت أختتق هناك في ذلك الكيس، ولكن شعوري بالوحشة زاد من اختناقي وخوفي.
بقيت مدة خلتها دهرا، صوتي أصبح ضعيفا، وصراخي لا يكاد يسمع، فاستسلمت لقدري!
كان الظلام قد بدأ يشتد من حولي، حتى أطبق على المكان كله،  ظلمة حالكة كالتي كنت فيها من قبل. أنفاسي ضعفت وجسدي المطوي والمحشور  في ذلك الكيس يؤلمني، لا أقوى على الصراخ  أو الحركة.
بدأت أشعر بحركة حولي، شيء ما يطوف حولي، يخربش الكيس، ثم يصدر صوتا، ويخربش بقوة أكثر.
تزداد الضجة ، أسمع آكثر من صوت، وأكثر حركة، وكأنما اكتشافهم لوجودي أتار لديهم شيئا ما،  مخالب وأسنان تمزق الكيس،
أظهر أخيرا، تقترب الأفواه والأنوف، وكثير من العيون.
فجأة نشبت معركة حولي، أصوات تزمجر وأجساد تتلاحم وتفترق ، أُسحب في هذا الاتجاه، وأحيانا إلى الاتجاه الآخر، جسد يقفز من فوقي، وآخر يدوس علي.
كنت مضطربا جدا، وقلقا جدا، فلست مدركا لما يدور حولي.
ظهر أخيراً صوت أكثر هيبة، زمجر بقوة أكبر، فتوقفت الأجساد الصغيرة قليلا، وبدأت معركة جديدة كان القادم الجديد طرفا فيها وأصحاب الأجساد الصغيرة في طرف آخر هذه المرة، وأنا في المنتضف، كالسابق أغالب خوفي.
انسحبت الأجساد الصغيرة، هدأت الأصوات وخمدت المعركة، يبدو أن صاحب الصوت الأقوى والجسد الأكبر، قد ربح المعركة واستأثر بي.
بقيت العيون الصغيرة ترقبني عن بعد، ربما  لا زال لديها بعض أمل في الاستحواذ علي مرة أخرى.
زمجر المنتصر بصوت أقوى، فابتعدت العيون وابتلعها الظلام.
أصبحت الآن موضع اهتمامه، راح يشتم رائحتي، كانت أنفاسه لاهثة، جرب أن  يلعق جسدي المكشوف، فأشعرني ذلك بالقشعريرة.
حاولت أن أصرخ، فخرج صوتي ضعيفا، ولكنه كان كافيا ليسمعه،
ولأول مرة التقت نظراتنا، رأيت عينيه تلمعان في الظلام، حدق في، اشتم أنفاسي، أصدر صوتا مختلفا وخفيضا.
أربكته حركة يدي وقدمي العشوائيتين. ابتعد قليلا ثم عاد يتشممني من جديد. وأخيرا ربض جواري ساكنا.
كان للمكان رائحة عفنة، ولرفيقي أيضآ، ولكن لا أدري لم كان وجوده يشعرني بالأمان فاستسلمت لنوم عميق.
انقشعت الظلمة أخيرا، وبزغ نور جميل، بدد قليلا من وحشة المكان، كان رفيقي لا يزال رابضا قربي، نظراته لا تزال تحيطني، وكأنها لم تغب أبدا،
بدات الحركة تدب من حولنا، خطوات غريبة اقتربت من مكاننا، شعرت بها تتوقف ثم تقترب أكثر فأكثر ، سمعت صيحة وكأنما تستدعي الكون بأسره، زمجر رفيقي، صاح الآخر، زادت الحركة حولي، وتوالت الأصوات المقتربة، والأجساد المحتشدة، طرد رفيقي، فأحسست به ينسحب بعيدا.
شعرت أنه تخلى عني، بينما ظن هو أن مهمته قد انتهت. لكن العيون التي طوقتني أخيراً وسمتني ب”اللقيط”.

تعليقات
Loading...