قيد في الأحوال.. اللواء شرطة م عثمان صديق البدوي.
حكي لي أحد قُدَامَي حرس الصيد ، عندما كانت حرس الصيد (سند) للدندر والسودان !. وعندما كانت في السودان حديقة حيوان سياحية ، والوحيدة في الوطن العربي ، قبل أن يطالها سيف الفصل التعسفي هي (كمان)! .
قال محدِّثي : حضر الرئيس اليوغوسلافي جوزيف بروس تيتو زيارة للسودان ، وأحضر معه دُبّاً أوربياً هديّة ،عندما كان الرؤساء والمسؤولين يتهادون ويتحاببون بهدايا (لا تُؤكل) ولا تدخُل الجيوب ! “ودي ياكلوها كيف يعني؟! “، ، مما دعا إدارة الحديقة لتهيئة قفص جميل ، يليق بعظمة تلك الهدية، ومكانة الدُّب الأوربي آنذاك في قلوب السودانيين ، فقد تم تجهيز القفص بقضبان جميلة وحوض ماء بارد” تُغمس فيه يومياً تلجتان” “عشان الكِسّير” ! وإرضاء الدُّب الأوربي علّها تُخفِّف من درجة حرارة جو السودان “والسَّموم” التي “تقرِش”! ، ومع ذلك كان القفص محاطاً بأشجار كثيفة ظليلة في الجزء الشرقي من الحديقة ، هذا غير عمليات الرش المتوالية طوال اليوم ! ، وبالرغم من كل ذلك فقد عجزت إدارة الحديقة من المحافظة على صحة الدُّب ، وأصبح الدُّب كل صباح “يُبلِّغ مرض صبّاحي” ! حتى ساءت حالته ونحل جسمه ، ونفق .
الجدير بالذكر ، وقبل هدية الدُْب ، كان السودان قد أهدى الرئيس تيتو “وحيد القرن” ، رمز سيادة السودان آنذاك ، لكن واجهت إدارة حرس الصيد مشكلة، فقد تم تجهيز قفص أنيق قرب سكن “وحيد القرن “، وداخله ما طاب ولذ من أجود أنواع العشب الأخضر الطازج ، من جنس اللوبيا وعيش الريف ، من جروف توتي والجريف ، لإغرائه في دخول المصيدة ، ومن ثم إلى المطار مع الوفد الزائر ، فأوروبا !
ورغم كل تلك الإغراءات رفض “وحيد القرن” السوداني بكل كبرياء وأنِفَة مفارقة مقرن النيلين ! . لكن… قد دنا موعد مغادرة الوفد اليوغسلافي ، و”وحيد القرن” مازال في صدِّه وعناده “ما داير السفر” !…. فما هو الحل؟! . قال محدثي : صدرت لنا تعليمات من إدارة الحديقة بتجويع “وحيد القرن” ، ولا تُقدَّم له أي وجبة، حتى يضطر لدخول القفص المُعَد للسفر ، وظلت الإدارة في الإنتظار ، والكل يحبس أنفاسه ، وتبقّي يومان من مغادرة الضيوف ، و”العيب” إنْ غادروا بدون هديّة القرن..”وحيد القرن” ! .
واليومان قد إنقضت.. و”وحيد القرن” لم يتأثّر بعقوبة التجويع والحرمان من الأكل والشرب .. وشوهد وهو “فُل الفُل”! …… لكن كانت المفاجأة أنّ الفيل الذي يجاور وحيد القرن كان يقذف له بالعشب من أعلى الحظيرة والسلك الشائك ليلاً، ! ، عندما تساءل الفيل في نفسه وخاطرته “حرموه ليه؟ !! ، فناوله بخرطومه و” فوّله ” ودعَمَه بكل عاطفة ، واكتشفت الإدارة ذلك ، وحرمت الفيل ووحيد القرن من الأكل والشرب على نهج القاعدة العسكرية “الخير يخص والشر يعُم”!، وجاع وحيد القرن، وهمس له صديقه الفيل وأقنعه “أنْ إذهب معهم يا صديق.. أنا البَيْ كلّو هيِّن”، ودخل “وحيد القرن” القفص مُكرهاً، إستعداداً للسفر ، وفي فجر اليوم الثاني أقلعت طائرة الخطوط الأوربية وهي تحمل أغلى وأثمن هدية !.. تاركةً الفيل يبكي وينتحب في فرقة وأذيّة !.
وتمر السنين والأيام، وتتحوّل هدايا المسئولين والحكّام من حيوانات، إلى ظروف “سمينة” وجواهر وماس ! .
لكن أروع مثل لِعزّة النفس السودانية ، ذلك الموقف الذي سطره اللواء الركن صديق الزيبق بأحرفٍ من ماس ، عندما حشد الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم قواته في أوائل الستينات ، وهدّد باجتياح الكويت، وأرسلت جامعة الدول العربية قوة مشتركة، منها كتيبة سودانية يقودها البطل وقتها العميد صديق الزيبق للمساعدة في صد الغزو . وبعد انتهاء المهمة إصطفّت الكتيبة في المطار إستعداداً للعودة للسودان ، وفي ذلك الأثناء تقدّم أحد أمراء أسرة الشيخ سالم الصباح ، وسلّم كل ضابط وصف وجندي ظرف ضخم ، مليئ بالمال والساعات الفاخرة ! …. والعميد صديق يراقب عن كثب ، وبعد انتهاء سمو الأمير من توزيع “الظروف”، صاح العميد صديق الزيبق بأعلى صوته، موجهاً النداء لقواته :
طابووور صفا…..
إااااانتباه……
أرضاااااً ظرف….
أي ضعوا الظروف أرضاً… ونفّذ الجميع التعليمات، ووضعوا الظروف بمافيها على الأرض ! وسط دهشة الأمير والمودِّعين !!
ثم وجّه العميد الزيبق نداءاً أخيراً للقُوّات :
لليمييين دوور……
معتدووون مرش…..
وإلى سُلّم الطائرة مباشرةً تاركين الهدايا على أرض الكويت… متوجهين إلى أرض الكرامة وجِباهُن عالية.. والكل لسان حاله يقول للدنيا…( أنا سوداني) !!!
وآخر الدرس :
علّنا نتعلّم من مدرسة اللواء الركن صديق الزيبق ، ونقول لكل مسئول، إذا استلم و(قبض) ، وقبل صعود الطائرة أن يقول لنفسه الطّمّاعة ! :
(أرضاً جوهر وماس) !!
فعزتنا ولاماس الناس!!.