الناقد إبراهيم الإعيسر في دراسة نقدية لرواية (تأشيرة غياب) للروائي عماد براكة.(٢-٢)

الخرطوم :مرايا برس

ذكرت في الحلقة السابقة أن بطل الرواية أشرف الصافي دخل في صراع طويل مع الذاكرة لمعرفة تفاصيل الأشياء. هنا تذكر
وجه (نهلة جمال الدين) وتدخينها للبنقو، وذاكرة ممارسته للجنس مع (سلافة).. فلا أظن حتى أن مبرر الكاتب الذي برر لذلك في صفحة رقم 71 (..واكتشف ان من السهل تدفق الذكريات التي لم تكن هي المقصودة، مثل شخص يبحث بقلق داخل حقيبة قديمة عن شهادة ميلاده المفقودة وبالصدفة يعثر على أشياء أخرى تدهشه)! وهو ما نلخص له في الاتي: أن (محاولتك لتذكر شيء قد يستدعي شيء آخر لا علاقة له بذلك الشيء) هو كافي أو مقنع لهذا التداعي، بل هي محاولة (فاشلة) من الكاتب ليظهر (موضوعيته) الروائية.
ولعل هذا ما يعيدني إلى شيئان: الأول تاريخ الطبعة الأولى للعمل؟ وهو ما أتي في العام 2016 (دار الحضارة للنشر/القاهرة) والثاني هو الانتفاضة الأدبية الكبيرة التي حدثت في السودان بين بدايات الألفية الثالثة إلى العام 2017 – مع لحظة (حظر) رواية (كرنك ناكومة) لمصعب جبارة – ببروز كُتاب عدة في أدب الرواية والقصة القصيرة – في زمن حكومة الإنقاد تحديداً – حيث برزت ظاهرة أدبية مثيرة للنقد تناسخت بصورة رتيبة في الأدب الروائي والقصصي وهي تناول ((الجنس)) كعميلة (تسويقية) أكثر من كونها قضية تكمن أهمية طرحها في حاضر ذلك الزمان أو تتماشى مع أحداث العمل الفني الروائي، خصوصاً بعد ظاهرة الحظر من المصنفات الأدبية لبعض الأعمال التي صنفت خادشة للحياء العام ثم نالت شهرتها الواسعة من بعد، بل هذا الأثر وصل لبعض الكُتاب الشباب – ما بعد 2017 – بأن تضيع فكرتهم الأساسية وسط العمل بإبتذال ((الجنس)) أو هم في الأساس بلا أدنى فكرة، أو قد إستغلوا – ميزة الحظر – التي أصبحت ميزة مهمة من لا ميزة – (لتسويق) أعمالهم.
أيضاً على العموم ليس هناك من كاتب سوف يقدم لك إعتراف واضح بأنه تناول الجنس كمحاولة ((تسويقية)) وإن اتضح ذلك في العمل بصورة واضحة جداً مع ربط ذلك بالاحداث المحيطة (الحظر) كعميلة تؤكد لذلك! إنما سوف يستخدم لك ((المراوغة)) في التهرب بمناقضة من هذا الفعل ((التسويق/التناسخ)) مستفيداً من لغته الأدبية والضعف النقدي عند الغالبية العظمى من القراء.
خلفية الرواية من العنوان والغلاف وبدايات السرد تكشف أنها تتمركز حول مناقشة الهجرة، لكن في عامة العمل لم تتناول الرواية قضايا الهجرة بالشكل الدقيق اللازم المتوقع بخلاف تناولها لرحلة (عامر عباس قنديل) من مالطا إلى إيطاليا، بل أن هذا المضمون ضاع وسط ذاكرة (رباب تاج السر) التي لم يكن لذاكرتها كل هذا التداعي المبتذال (الممل)، ذاكرة (نهلة جمال الدين) و(أنكا فان درماين) وأحداث أخرى عديدة يستشعر معها القارئ كأن الكاتب أراد أن يقحم كل ما كان يخطر في باله لحظتها أو في لحظة (تدوين العمل)، فأحياناً يقحم مشاهد عن أشخاص يتظاهرون فجأة داخل العمل ذلك دون أي مبرر واضح لهم يتماشي أو يترابط مع الأحداث أو حبكة العمل وأحياناً يعود إلى إبتذال (رباب تاج السر) نفسها بشكل مفاجئي ثم يأتي بذاكرة أخرى لمشهد آخر يضع به القارئ في حالة من (التشتت) خاصتاً في المتداخلات السردية المفاجئة للرواى (ما بين الراوي العليم (الرئيسي) وهو أشرف الصافي وما بين عامر عباس قنديل (الراوي الثانوي) الذي يمرر له الرواي العليم السرد ليحكي أحياناً بلسانه وأحياناً أخرى بلسان الراوي العليم).. كل ذلك يعد أغلبه مجرد ((حشو)) أو إنعدام ((للموضوعية)) أو إفتقاد ((لبوصلة الفكرة)) داخل الرواية التي كان يمكن لها أن تكون (نوفلا) قصيرة جميلة تتضمن الأحداث الموضوعية المهمة التي تخدم العمل، فليس هناك من عيب أو إعتراض في تناول الجنس (الذي سيطر على العمل) إذ تم تناوله (بموضوعية) تتماشي مع الأحداث لتصبح مترابطة أو (متوازنة).
(الجنقو مسامير الأرض) لعبد العزيز بركة ساكن نموذجاً في (الموضوعية)، أي تلك هي الحياة الطبيعية للجنقو (ممارسة الجنس، ارتشاف العرقي، تدخين البنقو..) فالحياة (حياة الجنقو) بكل أشكالها، أفراحهم، أحزانهم، أحلامهم، آمالهم.. هي المحور الذي تمحور حوله العمل كدارسة أنثروبولجية كم أوصفتها احدى الناقدات السودانيات التي لا أستحضر إسمها جيداً، مُستخدماً فيها الكاتب التصوير الدقيق لكل تلك الحياة مع مضمون مهم هو (ثورة الخراء) أهم ما يكمن في العمل، وذكاء كبير من الكاتب في أنه لم يخلق ((بطل)) واحد بين (الجنقو) ليعطي في ذلك بالمقابل حرية لنفسه في تناوله للمشاهد المتنوعة المختلفة من بطل إلى آخر ، من شخصية إلى أخرى ، من زمكان إلى زمكان آخر..
كذلك من ذات الناحية قد نأخذ رواية (الرجل الخراب) كمرجع (لتأشيرة غياب) – إذ أخذ الكاتب منذ البداء بذلك – في توظيفها (المنطقي/الموضوعي) للجنس ولتناولها للهجرة بالصورة الدقيقة التي إشتملت على نواحي عديدة من اشكاليات وهواجس الهجرة، أي أن حبكتها في الأساس هي تكمن في المفارقات الثقافية الدينية ما بين الشرق والغرب التي ولدت صراع الأب الشرقي المسلم (حسني درويش) في عدم تسامحه مع فكرة أن تمارس ابنته (ميمي) الجنس مع (توني) الصديق الذي اقترحته زوجته النمساوية (نورا شولز) كمعالجة لمشكلتها الاجتماعية أو تحديداً (وحدتها) ، ذلك بدافع شرعية أخذتها (نورا شولز) من (الثقافة المبنية على الحريات شبه المطلقة عند الغرب) في أن تمارس إبنتهما (ميمي) التي نشأت وترعرعت وسط تلك الثقافة ((الجنس)) مع صديقها الجديد الذي لا يؤمن بالرسل (توني).
فهنا تكمن (الموضوعية) التي تذهب بقدمين عند بركة ساكن.
(الخبز الحافي) لمحمد شكري يمكن أيضاً أن تؤخذ كمرجع لمعالجات عديدة، إذا صنفنا (تأشيرة غياب) من أدب (السيرة الذاتية) الذي يتيح حرية مطلقة في أن يتناول الكاتب كل تفاصيل حياة بطله بما فيها ممارسته ((للجنس)) نفسه، ففي (تأشيرة غياب) لم تكن السيرة الذاتية لشخص واحد بل هي كانت (لشخوص) عدة وهذا على ما أظن هو ما أحدث خلل كبير في العمل أو في أن يحدث (تشتت) داخل ذهنية القارئ، خصوصاً وسط (تشابك/تشابه) الأسماء وتعددهم داخل الشخصية الواحدة: عامر قنديل، سامي قنديل، عامر درويش، سامي ابن عامر قنديل، عامر عباس قنديل…
بصورة مفاجئة مني سوف أعود للحظة التي عرف فيها (أشرف الصافي) ذلك (المختل) المدعو (بعامر عباس قنديل) لأجعل منها من وجهة نظري الخاصة: اللحظة الختامية للعمل، أي) أن العمل الفني (الإبداعي) إنتهى من منتصف الرواية عند اللحظة التي عرف فيها (أشرف الصافي) أن (عامر عباس قنديل) هو العاشق الآخر (لرباب تاج السر) الذي كان ينافسه على إكتساب عشقها.
ولو أن الكاتب حاول أن يستخدم ميزته الأولى بتعذيب قارئه (بالتشويق) في أن يسرد القصة الكاملة للمرأة العاهرة التي تعمل في إحدى البارات الهولندية (أنكا فان درماين) ثم في آخر الأمر يكشف أنها زوجة (عامر عباس قنديل) كمماطلة كبيرة مماثلة لمماطلته الأولى في الكشف عن (عامر عباس قنديل)، لكن بالنسبة لي كقارئ – لعين – توقعت بصورة أكيدة منذ اللحظات الأولى التي عشق فيها (قنديل) هذه المرأة الهولندية أن تكون هي زوجته التي يقال أنها توفت دون معلومات واضحة وأكيدة عن أسباب الوفاة.
فوق كل ذلك سوف أقول أن الرواية ممتعة من حين إلى آخر، لقارئ (صعلوك) لا يُستبعد إعجابه الشديد بشاعرية (أبو نواس).

تعليقات
Loading...