الناقد إبراهيم الإعيسر كتب:ما بين الخيال والواقع في أدب الرواية

الخرطوم :مرايا برس

أولاً: الخيال والواقع في كل منتوج فني هما من الثنائيات الضدية أو المتناقضة جوهراً ولغة والذين لا ينفصلان عن بعضهما البعض من حيث التوظيف الفني لخدمة الواقع والخيال نفسهما (الخيال لخدمة الواقع والواقع لخدمة الخيال والخيال والواقع لخدمة الخيال والواقع)

ثانياً: موضوعياً في أدب الرواية لا توجد حقيقة اسمها (خيال مطلق) ، بل كل خيال روائي هو يرتبط بشكل أو بآخر بالواقع (بما في ذلك الخيال العلمي) أو هناك نسبوية خيالية توظف لصالح الواقع، فكل فكرة بشرية في هذا الكون ناتجة من التفكير في واقعية مسبقة (موجودات مسبقة/معرفة مسبقة) أو من (ذاكرة بصرية/سمعية/مقروءة/محسوسة) كنموذج إلى: أن الشاشة ناتجة من ذاكرة التلفزيون والتلفزيون من ذاكرة الرادي والرادي من ذاكرة (الأصوات/الآلات الموسيقية) والموسيقى من ذاكرة أصوات الطبيعة، كذلك الذي ولد بالفطرة (أعمى) لا يمكن أن تتمظهر في أحلامه صورة بشرية أو حيوانية أو جمادية.. الخ بل لا يمكن أن تتمظهر أي صورة كونية في أحلامه مطلقاً، نسبة إلى أنه فاقد للمعرفة البصرية، لذلك من الطبيعي إذا كان فاقد كذلك (للسمع/للذاكرة السمعية/المعرفة السمعية) لا يمكن أن ينتج أية فكرة حياتية أو كونية! إذن هو تلقائياً فاقد (للمخيلة) مطلقاً، الأمر كذلك ينطبق على الروائي الذي مهما (اتسعت مخيلته) لن يخرج من ((الواقع/الواقعية)) لأن من الطبيعي كل نتاج فكرة هي نتاج للذاكرة أو (للواقعية/لا مخيلة بدون واقعية) ، (الكتب السماوية هي الذاكرة الثانوية للبشر بعد ذاكرة الإله) فالذين يعبدون (الأصنام/الحيوانات) إن لم يكن هناك كون أو طبيعة حولهم أو (نسخ بشرية منهم) لما فكروا بالوجود الإلهي أو بفكرة الإله (إذن فكرة الإله هي نتاج الواقعية التي يعيشون بينها)!

فالخيال الروائي أو التفكير إنسانياً وحيوانياً وجمادياً وزمنياً ومكانياً ودينياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.. الخ عبر الرواية يمثل أداة إبداعية فكرية مركزية لبنية الرواية وهو لا ينفصل مطلقاً عن الإبداع الأدبي الروائي، لكن يفترض أن نقسمه إلى ثلاثة محاور:

1- خيال مقنع (رواية موسم الهجرة إلى الشمال نموذجاً)
2- خيال غير مقنع (لا يوجد نموذج روائي كامل، لكن توجد نماذج خيالية غير مقنعة داخل أعمال روائية؛ مثل أن يوصف روائي رجل من قبيلة الهوسا أنه أبيض اللون وشعره ناعم مثل الشعوب الآرية تماماً، وهو الأمر الذي ينطبق كذلك على الخيال المقنع (وجود نماذج خيالية غير مقنعة داخل أعمال روائية مقنعة خيالياً، بذات الكيفية)
3- خيال غير مقنع مبرر له بفكرة مقنعة لإنتاج خيال مقنع (رواية مزرعة الحيوان لجورج أورويل نموذجاً)

لكن قبل الغوص في شرح هذه المحاور لا بد أن نفهم الاتي:

أن المخيلة الرواية يتمركز تخيلها حول هياكل الرواية الاتية:

1- الشخوص (بشر/حيوانات/ألهة/جمادات (في حالة أنسنتها…)
2- المكان (الذي له وجود واقعي وبداخله حياة للكائنات الحية/ الذي له وجود وليس بداخله حياة للكائنات الحية والبشر خصوصاً/ الذي ليس له وجود داخل الكون)
3- الزمان (زمن الماضي/المستقبل) يلاحظ أننا لم نذكر زمن (الحاضر) لكون كل منتوج روائي هو من حديث الماضي (البعيد/القريب/القريب جداً) أو حديث عن زمن المستقبل (الذي ربما يصبح حاضر إذا تجاوزنا تاريخ الكتابة وصادف وجود العمل الذي تنبأ بالمستبقل في زمن المستقبل)
4- الحبكة/بنية الإثارة والتشويق
5- الأشياء (مشروبات/آكل/مركبات/آلات…)
6- الظواهر بمختلف أشكالها والتي تمثل بشكل أو بآخر جزء من الواقع

* أولاً الخيال المقنع:

إذا أخذنا نموذج رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) نجد أن الطيب صالح إختار فضاء المكان المركزي ليكون ما بين قرية (كرمكول) وهو مكان واقعي له نماذج قروية عديدة في أنحاء السودان الشمالي وما بين (إنجلترا) التي تمثل مكان واقعية كذلك، الأمر ينطبق أيضاً على الشخصيات حينا ننظر إلى شخصية (مصطفى سعيد) إبتداء من اسمها وجوهر شخصيتها نجدها كذلك موجودة في الواقع السوداني/الأوروبي (شخصية المهاجر السوداني المثقف) اسمها موجود أو مألوف مثل كثير من الأسماء العربية في السودان والوطن العربي (مصطفى سعيد) كما الزمان كذلك هو زمن الماضي (أي زمنية الرواية واقعية) .. إذن الواضح إن كل مكونات الرواية مرتبطة بالواقع مع الفكرة الروائية كذلك التي تتناغم من حيث الواقعية مع المكونات الروائية المحورية (الزمكان/الشخوص) .. وهنا بحسب ما أشرنا له ما يمكن أن يجعل المخيلة غير مقنعة هو أن يقدم لنا الروائي شخصيات (كرمكول) و(إنجلترا) بلغات ولهجات غير لغة ولهجة السكان الأصليين (لكرمكول) و(إنجلترا) الأمر الذي يتناقض مع واقعية الرواية من حيث محور فكرتها (صراع الحضارات بين الشرق والغرب) فشخصيات مثل حسنة بنت محمود، ود الريس، ومحجوب، ومصطفى سعيد (يمثلون الحضارة الشرقية) وشخصيات مثل آن هامند، ومستر روبنسون، وجين موريس (يمثلون الحضارة الغربية) فإن كانت فكرة الرواية تتمحور حول أدب الفيروسات أو الخيال العلمي أو أدب الرمز كنموذج يمكن أن تتبدل روائياً واقعية المكان والشخصيات لخدمة الواقع نفسه علمياً؛ فالفكرة هي التي تبرر للمخيلة.

خيال غير مقنع:

وهو العكس تماماً للخيال المقنع

خيال غير مقنع مبرر له بفكرة مقنعة لإنتاج خيال مقنع:

وهنا النموذج الأمثل لشرح هذا المفهوم هو رواية (مزرعة الحيوان) التي تصنف من أدب الرمز، وهي ما اعتمدت على الرمز والايحاء والتشبيه والمجاز، حيث نجد أن خيالها غير مقنع أو غير منطقي من حيث أن يكون أبطالها حيوانات يتحدثون لغة البشر ويعيشون الحياة التي يعيشها البشر بالقوانين الاحتكامية نفسها! لكن حينا ننظر إلى فكرة الرواية
التي تتمحور فكرتها حول عدة محاور (التاريخ السياسي في الاتحاد السوفيتي والصراعات السياسية ما بين الاشتراكية والرأسمالية والفشل الشيوعي من الشيوعيين أنفسهم ومفهوم السلطة المطلقة.. الخ) نكتشف أن شخصيات الحيوانات (تمت أنسنتها) وما هي إلا مجرد رمزيات ترمز لشخصيات بشرية سياسية لها وجود على أرض الواقع .. فالسيد جونز (البشري) يمثل شخصية القيصر المخلوع (نيكولا الثاني) الشخصية الواقعية، والخنزير الذي يدعى (بميجر) هو ما يمثل شخصية المزيج ما بين (ماركس ولينين) ، أما الخنزير الآخر المدعو (بسنوبول) يمثل شخصية (لينين وتروتسكي) والخنزير (نابليون) هو(ستالين) في حقيقته… الخ

ولعل هذا ما يطرح لنا سؤال: هل الروائي ملزم بالبحث المعرفي؟
الإجابة هي: الفكرة الروائية هي التي تحدد إن كان ملزم بالبحث المعرفي أو لا، فجورج أورويل كان ملزم بالبحث عن طبيعة الصراع السياسي في الاتحاد السوفيتي، كما لم يكن ملزم بأن يوظف (أنسنة الحيوانات) بل مخيلته هي التي افترضت ذلك (وضع الصراع السياسي في قالب روائي رمزي). كذلك تقديم شخوص واقعية في مكان واقعي لمناقشة قضية واقعية يفترض أن تكون هناك دقة في البحث من حيث معرفة المرجعيات الثقافية والإثنية والدينية للشخصيات.

تعليقات
Loading...