الناقد عزالدين ميرغني يكتب:أسئلة الحداثة في الرواية السودانية

مرايا برس.

..

تنبأ هيجل في كتابه (محاضرات في الاستيطيقا), بظهور الرواية , بوصفها نثر الحياة الحديثة , التي يعبر عن انكسار الوحدة التي تربط الفرد بالمجتمع ووحدته الكلية التي ينتمي إليها , وتزايد شعور الفرد بالاغتراب , فالشعر كما يقول الدكتور رمضان بسطاويسي في كتابه ( عن الرواية الحديثة في دولة الإمارات ) . بعنوان : { الخطاب الثقافي في الإبداع الأدبي في الإمارات قراءة في القصة والرواية  – البنية والأسلوب } . فالشعر كان تعبيراً عن توحد الفرد بالجماعة وارتباط بالكل وتعبيراً عنه , ولذلك فإن تقنيات الشعر المعاصر , في تعبيره عن زمانه الخاص , تقدم تعريفاً جديدا لشعرية الشعر , مثلما تحاول القصة والرواية تقديم المعنى الأدبي للحياة .
لقد بدأ التاريخ الأدبي للرواية السودانية في خمسينات القرن الماضي , وقد بدأت مثلها والرواية العربية بداية متواضعة , أقرب إلي التقليد لنمط الرواية التقليدية المصرية . والتي كانت بدورها تقليداً لنمط الرواية الغربية والتي كانت هي نفسها تحاول التخلص من هذا النمط التقليدي والذي بدأ في أوربا منذ رواية ( دون كيشوت ) , ورواية ( موبي ديك ) , وغيرهم . ومحاولة تطور الرواية في أوربا , والذي وصل إلي ما يسمى بالرواية الحديدة , ( Le roman nouvel  ) , ظهر ت محاولات التجديد منذ ظهور الثورة الصناعية الكبرى . وهذه الرواية الجديدة ظهرت في سبعينات القرن الماضي . وحسبما ذكرنا فإن ظهور الرواية السودانية قد ارتبط بالنمط التقليدي , حيث ظهرت كتابات خليل عبد الله الحاج وفؤاد عبد العظيم , وملكة الدار محمد , والتي كانت تكتب الواقعية وبطلها الايجابي الذي لا يتمرد على المجتمع . وهي روايات ظهرت في عهد الاستعمار , فما حاولت أن تكتب أشواق الأمة في التحرر منه . وحتى بعد الاستقلال لم تستطع كتابة النضال الذي توج الاستقلال . فهي لم تكتب بطولات على عبد اللطيف , وعبد الفضيل الماظ , وغيرهم . لقد طغت القصة القصيرة على الرواية , لقدمها ورسوخها لأكثر من قرن مضى . حتى  بداية الستينات وما بعدها بظهور الروائي الراحل الطيب صالح , والذي أتاح له السفر والعمل خارج الوطن مع مهنة الإعلام والثقافة الأنجلوفونية , أن يواكب تطور الرواية الأوربية وانعتاقها من قيود الشكل الكلاسيكي القديم . في أن يحّدث الشكل والمضمون في رواياته . فجاءت متضمنة لكل شروط الشكل والمضمون الحداثوي في الرواية . لقد استخدم تقنيات السينما في الرجوع والعودة والاستباق , ثم المونتاج السينمائي بحيث يلملم الأحداث المتفرقة ويربط بينها بخيط سردي قوي . ورغم أن الطيب صالح لم يقلد ما جاءت به الرواية الفرنسية الجديدة , والتي كان من عمدها ومؤسسيها ( ألان روب جرييه , وناتالي ساروت , وميشيل بوتور ( والذي توفي هذا العام ) , لقد اهتمت هذه الرواية فيما اهتمت بلفظ ما يسمى بمفهوم البطل , والمعرفة المهيمنة للمؤلف ( موت المؤلف ) , والانسجام النفسي للشخصيات , ومفهوم الانعكاس مع الواقع , كما تخلوا عن الخطة الزمنية , والحبكة التقليدية , واهتموا أكثر بالحياة الداخلية للفرد والذي أصبح مركز عملية السرد . ولذا فقد كان ذكياً في ذلك لان من قلدوا الرواية الجديدة في العالم العربي قد وقعوا في فخ كتابة اللا معنى في النص , وأصبحت الكثير من النصوص الروائية نصوصاً منبتة ولا تحمل بطاقة أو هوية سردية . نصوصاً بلا رأس تارة , وتارة بلا ذيل , حكايات بلا حكاية , , ولغة بلا روح ولا معنى , كما يقول الناقد المغربي سعيد بو كرامي . ( مجلة الدوحة عدد أكتوبر الأخير ) .
لقد فتح الطيب صالح الباب واسعاً للتجديد والتحديث في الرواية السودانية والعربية , وهذا التجديد والتحديث لا يشمل الشكل فقط , وإنما الشكل الحداثوي الذي يحمل مضموناً جديدا يحفر في فجوات الواقع وثمرات التراث السوداني في التصوف وفي الحكايات القديمة والأساطير المنسية في الثقافة السودانية ( دومة ود حامد , بندر شاه , وضو البيت ) . لقد توقفت الرواية السودانية بعد الشهرة التي نالها الطيب صالح , منذ نهاية الستينات وحتى بداية الثمانينات , والتي وقف فيها الروائي السوداني خائفاً من تقليده أو من عدم الثقفة في اختراق سقفه الذي ناله بشهرته . رغم ظهور روايات إبراهيم اسحق , والذي كان واثقاً من نفسه وأدواته السردية ومضامينه ولغته التي تختلف عن لغة الطيب صالح السردية . وانفتح الباب واسعاً في نهاية الثمانينات , لتظهر روايات على الرفاعي , ( نال هذا العام جائزة كتارا للرواية غير المنشورة , رواية جينات عائلة مورو ) والروائي بشرى هباني , والفاتح علي مهدي , والحسن محمد سعيد , وفيصل مصطفى ,وجمال محمد إبراهيم , وضحية , وأبكر آدم إسماعيل , والعباس علي يحي العباس , وعبد العزيز بركة ساكن , ومنصور الصويم , والحسن البكري , والزين بانقا ,وأمير تاج السر , ومحمد هارون  وأحمد الملك , وضحية , وصلاح سر الختم . وغيرهم . ومن الكاتبات زينب بليل , وبثينة خضر مكي , وليلي أبو العلا , وملكة الفاضل . وشامة ميرغني , ونفيسة زين العابدين , وأميمة عبد الله , وسارة حمزة الجاك . وغادة عبد العزيز .
لقد أتاح التعدد الثقافي للمجتمع السوداني في أن بثري المضمون والمحمول الثقافي للرواية السودانية , ويجعل الحداثة ليست هي الشكل فقط وإنما الأخذ الجيد للواقع الثقافي السوداني المتفرد عن بقية المجتمعات العربية والإفريقية . وهذا التعدد الثقافي خلق تعدداً فنياً متنوعاً في الفن الروائي . وقد كشف في الكثير من الروايات الحديثة وخاصة عند الشباب , عن وجود الكثير من التراث الحياتي الذي لم يدون . ومن الخامة التاريخية التي لم تكتشف . والذي أغرى بعض من كتاب الرواية للتخييل في داخله مثل الروائي الحسن البكري , وأمير تاج السر , وجمال محمد إبراهيم , وحمور زيادة .ومنصور الصويم . وكتابة صور الحياة اليومية في الماضي والحاضر , وصور الموروث الشعبي , كما في روايات إبراهيم اسحق , والحسن البكري , وجماليات المكان , كما في روايات على الرفاعي . والكيانات الإجتماعية التي تقع على أطراف الخريطة الاجتماعية والسياسية والجغرافية , كما في روايات عبد العزيز بركة ساكن , وأبكر آدم اسماعيل , وعادل سعد . ولقد أظهرت كتابات الأجيال الجديدة والتي فازت أو طبعت خارج الوطن , الثقافة الصامتة , أو المسكوت عنها , بل انفتحت على كتابة الإنسان دون تحديد المكان كما في روايات عباس على عبود وعمر الصائم , ومحمد خير عبد الله . وضياء الدين حاج عثمان .
لقد استفاد الجيل الجديد من كتاب الرواية في السودان , من ما سبقوه , فلم يكن الطيب صالح سقفاً خافوا من تجاوزه , وإنما رائداً ومستكشفاً ساروا على نهجه في مغامرة التجريب والتجديد . بحيث تنامي الوعي الجمالي والأدبي عند الكثيرين منهم . وغامر البعض منهم باستخدام الواقعية الصوفية والترميز العيني الذي يستنطق الأشياء كما في روايات عبد الغني كرم الله , ويغامر بدخول عالم الجن وسحره كما في رواية علي الرفاعي , والتي نال بها الجائزة في مسابقة ( كتارا ) . ورواية ( مسرة ) للراحل الدكتور ( بشرى هباني ) . وأكثر من صور مآسي الغربة والضياع فيها الروائي عماد البليك , والروائي السوداني الذي يعيش خارج السودان ويكتب بالإنجليزية جمال محجوب , وقد صور في رواياته مشكلة الإنسان الهجين وغربته , وطفولته التعيسة . لقد استفاد أغلب هؤلاء الكتاب , من التقنيات الحديثة , المواكبة للرواية العربية والعالمية , حيث تعدد الأصوات السردية داخل النص , والتي يطلق النقد الحديث عليها مصطلح ( البوليفونية ) , وتقنية الراوي العليم , الذي قد يهيمن على كل العملية السردية , أو يتبادل السرد التناوبي مع صانعي الحدث داخل النص الروائي .
وفي كتابة المرأة السودانية للرواية , والتي بدأتها القاصة والروائية ملكة الدار محمد في روايتها ( الفراغ العريض ) , مبكراً ثم توقفت الرواية النسائية بعدها لمدة  حتى يتهيأ وضعها للكتابة بحسب تحولات المجتمع الجديد , بعد الاستقلال , فقد كانت كتاباتها تحمل سمة الحداثة في الشكل من حيث تقنيات الكتابة الحديثة , وهي في فترة التوقف هذه قد استوعبت كل تجارب الكتابة في الداخل وفي الخارج , حيث انتشار التعليم والجامعات , ووسائل الاتصال الحديثة . لقد انحصر التجديد والتجريب عند الرائدات الأوائل من جيل المدرسات ( زينب بليل , بثينة خضر مكي , ملكة الفاضل ) , في كتابة الهموم العامة للمرأة , حيث تطرح قضايا الجندرة العامة , وليست هموم الذات الخاصة . حتى جاء جيل الروائيات الجديد , والذي استفاد من الحداثة في كتابة الرواية في الشكل والمضمون , وقد أتاحت له ذلك انتشار الرواية وسط القراء , وحرية المشاركة والمنافسة في المسابقات , والتي تقبل التجديد والحداثة ومغامرة التجريب في الرواية . وقد أصبحت أكثر جرأة في الكتابة والتعبير عن أشواق العاطفة والجسد عند بطلات رواياتهن . وقد وجدت الكاتبة ما بعد عهد التسعينات , الفرصة لمواجهة قضايا الإنسان الحية , ثم الدخول إلي محارة الذات , لتكتشف الواقع الجديد للمرأة السودانية , دون أن تنقله كما هو , وإنما أن تعيد صياغته من جديد . فهي لا تستكين لما هو جاهز في الرؤى وإنما تكتب الوجع الداخلي الخاص , والذي لا يستطع الرجل أن يكتبه نيابة عنها . وهذا الوجع يظهر حتى في عناوين الروايات والتي تمثل عتبة النص الأولى . ( ليتك تعلم ) لغادة عبد العزيز , فالبطلة تتوجع منذ العتبة الأولى والآخر لا يعلم , و ( خيانتئذ ) , لسارة حمزة الجاك , حيث رائحة الخيانة تفوح منذ عتبة الدخول , و ( الغابة السرية ) , للروائية ليلى صلاح , حيث الفضاء المكاني غابة سرية , ندخلها منذ البداية , و ( حجر الدم ) , لشامة ميرغني , حيث إدانة العنوان منذ البداية لظاهرة الختان الفرعوني .
والكتابة لدى الكاتبة التي تنتهج منهج الحداثة والتجريب , يعني كتابة الألم والمعاناة , وحدة الوعي , ويقظة التخيل , فلا تنداح الأشياء , وإنما تتشكل فالتفكيك للتجربة المعاصرة , يعني تقديمها في صياغة مركبة , وليست معقدة , إلا لمن ير مستوى واحداً للأشياء , بينما للحياة مستويات متعددة .

تعليقات
Loading...