بيت العرس..القصة الفائزة بجائزة القصة القصيرة.. للكاتبة السودانية شذى فقيري. 

الخرطوم :مرايا برس

( هنادي قومي لمي الغسيل من الحبل السماء شايله الليله يمكن تصب )
هتفت أمها الرضية من داخل الغرفة وهي تستعد لحضور عقد ست الجيل بنت جارتهم، وأردفت (ما بعرف ليلى دي اختارت تسوي عرس بتها في الخريف ده ليه قالت خالها شيخ وشاف الخيره وأصر على اليوم ده مخير الله غايتو إن شاء الله ما تصب)
تكاسلت هنادي وهي تجر قدما أثر أخرى وكأنها تسحب جوال من الأسمنت، لقد سئمت عمل البيت الذي لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد، ذهبت للحوش الواسع المهيل وبدأت في إنزال الملابس من الحبل سمعت أزيز طائرة في السماء رفعت رأسها في محاولة يائسة لقراءة المكتوب على جناحها،، جلست على العنقريب الخالي من المرتبة وسرحت في السفر وما ادراك ما السفر، هل ياترى سيكتب لها يوما أن تحمل حقيبتها وتسافر، مثلها مثل فتيات الحلة اللواتي تزوجن، منهن من سافرت خارج السودان ومنهن من رحلت للخرطوم ومنهن من تنتظر زواجاً عائليا مرتباً له منذ القدم، ولكن من سيتقدم لفتاة لا يعرفها أحد لا تجيد ما تفعله الفتيات من شؤون الزينة والتبرج وليس لأحد وقت لكي يتجاوز وجهها الخالي من المساحيق لكي يتوغل في أعماقها، وإذا تجرأ وفعل ماذا سيجد،؟ ماهو المدهش في نفس أدمنت الحزن والغربة عن الآخرين، داخلها سراب يحسبه فاقد البصيرة ماء ولكن إذا ما جاءه وجده قاع صفصف خاوية فجأة جفلت من صوت طلقة قوية من مسدس، فزعت الدجاجات والمعزة الوحيدة التي تقف في نهاية الدار، أعقب صوت الطلقة زغرودة حادة وكأن صاحبتها كانت تدرب حنجرتها لمثل هذا اليوم، هرولت أمها وهي تسحب نصف ثوبها وراءها وهي تهتف
(سجمي عقدوا ما تتأخري صلي المغرب وتعالي للحفلة)
أمها تعتقد جازمة أن لحظة العقد يجب الا تفوتها وكأن المأذون سيطلب شهادتها وسيثير غيابها الأسئلة.
غشيها اكتئاب بعد سماع أوامر أمها كانت تتوق لأن تتهرب من الواجبات الإجتماعية الثقيلة خاصة التي تتطلب أن يقابل فيها المرء حشود من الناس في بقعة جغرافية ضيقة ومحدودة
تعجبت من أمها فهي في العادة ليست على وفاق مع ليلى والدة العروس ودائما ما يتغالطان في اجتماعات نساء الحِله حول (عِدة الجمعية والتي تتهم فيها أمها ليلى بأنها تستلف العدة وترجعها مخدوشة أو مكسورة أو تتأخر عن الوقت المحدد لإرجاعها .
ولكن رغم ذلك فهي تقول مقولتها المشهورة (الواجب واجب وكل شيء بي دربوا).
غريبة جدا أمها فهي قادرة تماما على فصل أي موقف من الآخر فتبدو واجباتها الإجتماعية كأنها الزيت الذي يطفو دائما على سطح ماء العلاقات. انتبهت هنادي أن الوقت يمضي وأنها لم تجهز بعد، تحسست بقية الملابس على الحبل ووجدتها رطبة قليلا، تركتها حتى تجهز ثم تعود لإنزالها من الحبل.
ذهبت لغرفتها واخرجت فستانها البنفسجي ذو الأكمام الواسعة المطرزة عند نهايتها بورود بيضاء ووردية هدية العمة إكرام من بلاد الحرمين الشريفين ، هذا الفستان الذي تحتفي به فهو يبرز جمالها الذي لا تشعر به إلا عند ارتدائه فهو محتشم وجميل في ذات الوقت تذكرت أنها ارتده لأول مرة في الوليمة التي أعدها والد د أيمن بمناسبة افتتاح ابنه لأول عيادة أسنان بالمنطقة، يومها سلم عليها أيمن بحبور وعلق على فستانها قائلا الله من لون البنفسج) ابتسمت بحبور وكأنها مليكة تواجه الجمهور لحظة تشريفها، وعندما ذهبت للبيت لم تنم عاودتها شياطين الشعر وملائكته معا فاكملت عبارة د أيمن الله من لون البنفسج
رباه من هذا النضار
على مروجي قد تتوج
ظل أيمن لفترة طويلة يستحوذ على تفكيرها وظلت معلقة بحبال تعليقه لها وابتسامته حتى كادت حبال اللهفة أن تذوب من حرارة البعاد، فلم ترى أيمن بعد ذلك إلا مرات قليلة ذهبت فيها مع والدتها لمعالجة أسنانها، لينتشر بعد ذلك نبأ خطبته على زميلة له لتذوي بعدها أحلامها كقطعة طين في شاطئ غشيها الموج فتبعثرت ذراتها في خضم اليم العظيم.
افاقت من تأملاتها على ذكر عمتها إكرام التي تأتيهم في زيارة معهودة كل عام وهي تزداد كيلا غوايش وأساور ذهبية وعقود وختم تنؤ بها يديها وأصابعها ، يصحب قدومها فاصل من النحيب على (سيد أخوي ود أمي) كما كانت تطلق على الوالد رحمه الله ورغما عن تلك الحنية والذكرى التي تهيج سنويا كرياح الخماسين، لم تكن إكرام اسما على مسمى، وكانت دائما عطاياها لهم كعطية المزين رغما عن ثرائها وعماراتها واطيانها ،إلا أنها طالبت بحقها في نصف بيت متهالك من ورثة جدي كانت والدتي تطمح أن يترك لنا لنأجره ونستطيع أن نكمل دراستنا أنا وهاشم أخي، افاقت من حديث الذكريات الذي أجج ناره فستان عمتها إكرام، وضعت قليل من الكحل لا يكاد يرى بالعين المجردة، كأنها تريد فقط أن تثبت لنفسها أنها اتبعت طقوس الأعراس مثل كل الفتيات، ثم بحثت عن علبة بدرة احضرتها لها الوالدة في محاولة حثيثة منها لتحريك جبل الجليد داخلها ودفعها تجاه الاهتمام بنفسها وترك كتابة الشعر والخزعبلات كما كانت تسميها ، لم تلتفت يوما لتاريخ إنتهاء العلبة، ليت لعذاباتنا في الحياة تاريخ صلاحية
تحركت صوب بيت عم إبراهيم الزين والد ستو، كما كانت تحب أن يناديها الجميع فقد كانت تكره إسم ست الجيل وتعتقد أنه اسم بلدي لايليق بفتاة راقية مثلها، وحاولت اقناع والدها تاجر المواشي (المرطب ) كما يحب أن يسميه أهل الحي أن يغير اسمها إلى إسم مودرن كما كانت تقول ولكنه حلف باغلظ الإيمان آلا يغير اسم والدته ست الجيل ووعدها أن يشتري لها سيارة عند تخرجها كتعويض لأسمها المهدد بالانقراض
فكرت هنادي وهي في طريقها، عن كيف ستبدو ستو بعد أن وقعت تحت يدي خبيرة التجميل، وماذا ستفعل فيه الخبيرة من جديد وليس في وجه ستو موضع إلا وفيه من فنون المكياج والوانه ، غيرت ستو لونها تماما بكريمات التبييض، حتى أن هنادي قالت لأمها ذات يوم أنها دققت يوما في وجه ستو ورأت شعيراتها الدموية بجميع تفرعاتها رؤيا العين، تحت طبقة الجلد الوحيدةالتي بقيت بعد إزالة ،كل اطلال الملانين، فنهرتها أمها ونعتتها بالمتفلفسه بلا فايدة )وهي تقصد المتفلسفة التي تنتظر عريس في خيالها وحدها .
دنت هنادي من بيت العرس، ورأته زاهيا متلألئ من شدة الأنوار، يضج بالغادين والمتلصصين المهنئين والحاقدين، المنتبذين مكانا قصيا يتيح متابعة جيدة لحركة الكل ومتابعة الحاضرين والحاضرات اللابسات تيابهن والسافرات
دخلت هنادي وجلست في أول كرسي صادفها، تنفست الصعداء لأن أحداً لم يرها وهي تدخل، جالت بنظرها في الحضور، رأت سارة أخت ستو وهي ترتدي فستانا وتجرجر اذياله وراءها ليكنس بدوره كل أوراق الحلوى وبقايا الخبيز، كانت تبدو أكبر من سنها كثيرا وكأنها كبرت في أسبوع، لمحتها فاتت وهي بالكاد تستوي على كعب عالي يحبس المَرء أنفاسه مع تمايله وهي تحمل صينية صفت عليها أنواع من الخبيز وصنوفا من الحلوى، قدمت لها الصينية فلامتها في سرها على وضع كل هذه الأصناف في صينية واحدة، فكان لزاما عليهم فصلها وتخصيص واحدة لكل نوع فالصواني لدى عائلة ستو كثر والبنات الجميلات ذوات الشعر الصناعي الطويل ورموش المظلات كثر، فلماذا لا تحمل كل واحدة صينية بها صنف واحد فقط.
تنازعت هنادي بين الأصول وإغراء الصينية فالاصول تقتضي أن تحمل حبة واحدة ولكن كانت حلوى الماكنتوش جميعها هناك تغريها بالأكل تغازلها البنفسجية وتغمز لها الخضراء وتهمس لها الوردية المحشوة بالبندق، ولكن لابد من الإختيار، فحملت البنفسجية وهي تأمل أن تعود فتاة أخرى بصينية أخرى.
ارتفعت الزغاريد تشق عنان السماء، دخلت مجموعة من الحسان يرتدين ذات اللون الأحمر القاني وراءهن دخلت ستو تغطي وجهها( بالقرمصيص) وهي تمسك بيد عريسها، ازاح العريس (القرمصيص) من على وجهها وتطلع الحضور كأنهم في مسرحية ازيحت ستارتها، بدت ستو مبتهجة وسعيدة وبدت فعلا محقة ففي هذه اللحظة بالذات لم يكن يليق بها أن تكون ست الجيل. في حين بدأ العريس مرتبكا لا يعلم هل يجلس على اليمين أم اليسار يمسك يدها أم
يتركها حتى حسمت إحدى النسوة هذه الفوضى بأن( قلدته قلدة) كادت تزهق أنفاسه وجرته من يده وأجلسته يمين العروس، كان يتصبب عرقا رغم برودة المكيفات المنتشرة طولا وعرضا، أشفقت عليه هنادي وتخيلت نفسها مكانه، حتما تراوده فكرة الفرار من هذه الزنقة وهذا الحشد على عكسه بدت العروس، كانت تبدو في قمة استمتاعها بالعيون التي تحدق فيها وفلاش الكاميرات والفيديو وهي في منتهى الثقة، عجبت هنادي من أين لها بهذه الثقة وكيف تضمن أن هذا الجالس بجوارها هو الشخص المناسب الذي يجب أن تقضي معه ما تبقى من حياتها.
فجأة اِنتبهت لأمها وهي تهزها (هوي هنادي سرحانه وين عقبالك قومي باركي للعرسان اتحركي شويه)
لم تترك لها أمها فرصة للتفكير سحبتها من يدها، وجدت نفسها في وسط دائرة من البنات ومهرجان من الألوان وفجأة لمع في السماء برق خاطف وتذكرت أن الملابس لم تزل معلقة على حبل الغسيل
تركت المكان مسرعة وكأنها تهرب من أشباح وصلت البيت لاهثة الأنفاس بدأت بإنزال الملابس من على حبل الغسيل. سمعت أصدأ زغرودة طويلة تخللها دوي رعد قوي واِنهمر المطر غزيرا، تبلل فستانها البنفسجي ولكنها لم تعره اهتماماً حملت الملابس في يد وأمسكت بخيالها باليد الأخرى ورقصت رقصة المطر. 

تعليقات
Loading...