دكتور عبدالمنعم العميري يكتب:هل أنت موهوب أم موهوم.

ينابيع الحكمة: مرايا برس

أيهما أهم : الشهرة أم التأثير ؟!
من منا لا يعرف المطرب العالمي مايكل جاكسون ؟! الملايين يعرفون مايكل جاكسون ، ولا نحتاج لتعريفه ، فهو أشهر من أنْ يُعَرَّفْ ، وفي المقابل قليلون هم من يعرفون ألكسندر فلمنج !! فمن هو ألكسندر فلمنج ؟! ألكسندر فلمنج هو الشخص الذي إكتشف البنسلين في العام ١٩٢٨م ، وهو أول مضاد حيوي عرفته البشرية ، وكان لفلمنج الفضل في إنقاذ حياة مليارات من الناس منذ ذلك الحين ، بفضل البنسلين والمضادات الحيوية الأخري التي فتح الباب إليها ، فلمنج كان سبباً في إنقاذ حياة مليارات ٍمن الناس بإذن الله تعالي ، بينما لم نسمع أن مايكل جاكسون أنقد حياةَ شخصٍ واحد !! ربما أضاف مايكل جاكسون المتعة والمرح لحياة الكثيرين من الناس ، ولكنه لم ينقذ الملايين أو المليارات من المرض والموت ، ومع ذلك فإن مايكل جاكسون هو الأشهر .. يقول الكاتب المصري خالد محمد خالد في كتابه الوصايا العشر ( دعِ الشُّهرةَ للحمقي ، وفُزْ أنت بالمجد الحقيقي ) ، فالشهرة سهلة ، فيمكن لأي مجرم أن يكونَ مشهوراً ، وأبليس اللعين أشهر من علم علي رأسه نار ، وهو عدوٌ لله ورسوله وللبشرية جمعاء . ماذا نستفيد من هذا الكلام ؟! الإستفادة هي أن تركز علي التأثير ولا تنشغل بالشهرة ، فإن أصبحت ذا تأثيرٍ وجاءتك الشهرة فخيرٌ وبركة ، وإلا فلتنحاز الي أصحاب التأثير ، لأن الشهرة وحدها كزَبَدِ الماء ، والتأثير هو ما ينفع الناس ، والله سبحانه وتعالي يقول ( وأما الزبدُ فيذهب جفاءاً وأما ما ينفعُ الناسَ فيمكثُ في الأرض ) الآية ١٧ من سورة الرعد.
وقد وقع بعض الناس في فخ الشهرة التي بلا تأثير ، حيث نجد الأستاذ الجامعي الذي هجر تلاميذه ليصبح وزيراً ، والطبيب الذي هجر مرضاه ليصبح والياً ، والإداري الذي هجر مؤسسته ليصبح مستشاراً ، لأن هذه المناصب تحقق الشهرة السريعة ، والمناصب الأولي تحقق الشهرة البطيئة لأنها مربوطة بالتأثير ، والتأثير لا يأتي بين يوم ٍ وليلة ، وكان الأحري أن يلزم كلٌ منهم منصبه ، ويمارس العمل الذي يتقنه ، ويتركوا السياسة لأهلها ، فهم أهلها وأدري بها ، وكما يقول المثل (أهلُ مكةَ أدري بشِعابها) ، هذا مثلٌ بسيطٌ سقته للتوضيح ، وهناك العشرات من الحالات الشبيهة ، لأناسٍ تركوا ما يجيدونه ، ورغبوا في ما يفعله الآخرون ، إبتغاء شهرةٍ سريعة ..
إذا كان الأمر كذلك كيف أصبحُ شخصاً ذا تأثير ؟!
قبل أن نجيب علي هذا السؤال هناك بعض الأمور التي يجب توضيحها . فإذا صارت هذه الأمور واضحة لديك وفهمتها جيداً ، فلا خوفٌ عليك بعدها بإذنه تعالي ، أول هذه الأمور هو أنك شخص متفرد ، ما معني متفرد ؟! معني متفرد هو أنك لا تشبه أحدا” من العالمين ، فمنذُ خَلقِ سيدنا آدمَ وحتي تقوم الساعة ، لم يُخلق شخص ٌ يشبهك تماماً ، ولا توجد نسخة أخري منك ، لا سابقاً و لا لاحقاً ، والعلماء قد أثبتوا أن بصمة الأصبع للشخص لا تشابه بصمة أي شخصٍ آخر في العالم ، بل لا تشابه بصمة أي شخص أخر من الأحياء أو الأموات ، إذن أنت شخص متفرد ..
الأمر الثاني : ما دمت متفرداً وليس لك شبيهٌ ، إذن أنت لديك رسالة ومهمة خلقك الله سبحانه وتعالي لها ، أي أن لك إضافة في هذا الكون مطلوب منك أن تضيفها أنت وحدك ، والله سبحانه وتعالي أعدك ويسرك لهذه المهمة ، يقول المصطفي صلي الله عليه وسلم (إعملوا ، فكلٌ ميسرٌ لما خلق له) متفق عليه .
الأمر الثالث : هو أن لك ميزةً تنافسيةً علي بقية الناس ، وأذكر أنني قبل سنوات حضرت محاضرة قيمة عن التخطيط الأستراتيجي لأستاذنا الدكتور طارق السويدان ، وهو من الشخصيات المبدعة والموسوعية ، وكانت المحاضرة بقاعة الصداقة بالخرطوم ، وكان مما ذكره الدكتور طارق السويدان طريقة (SWOT) المشهورة في التحليل ، وهي طريقة تعني بتحليل نقاط القوة ونقاط الضعف ، والفرص المتاحة والمهددات ، ثم علق عليها الدكتور السويدان بأن هذه الطريقة قد أصبحت طريقةً قديمة ، وأن الناس الآن يعملون بطريقة تسمي (الميزة التنافسية) ، وهي أن لكل شخص نقطة قوة أو موهبة أو ميزة يتفوق بها علي الآخرين ، من صبي الورنيش الذي يمسح الأحذية ، الي البروفسير الذي يدرِّس الطلاب بالجامعة ، صبي الورنيش لديه شئٌ يجيده أكثر من أستاذ الجامعة !! وعامل النظافة لديه شئٌ يجيده أكثر من الطبيب !! والعامل البسيط لديه شئٌ يجيده أكثر من المدير !! عَلِمَ هذه الميزة من علمها وجهلها من جهلها ، وكان كلام الدكتور السويدان صدمة بالنسبة لي ، وجلست مع نفسي وتساءلت من أنا ؟وما هي ميزتي التنافسية ؟! وبدأت أبحث وأنقب وأسأل ، سألت زوجتي والمقربين مني ، وإستعنت بأصدقائي لمساعدتي في التعرف علي ميزتي التنافسية ، وبحمد الله تعالي توصلت الي ميزتي التنافسية ، وإستفدت منها كثيراً ، أكثر مما كنت أتخيل ، ولله الحمد والمنة ..
نعود الي سؤالنا مرة أخري وهو كيف أصبح شخصاً مؤثراً ؟!
لكي تصبح شخصاً مؤثراً عليك أن تبحث عن موهبتك التي صنعت من أجلها ، فأنت شخص موهوب ، وليس من الحكمة أن تقلد الآخرين في مواهبهم فتصبح شخصاً موهوماً . وأنت تبحث عن ميزتك التنافسية ، والتي تتفوق بها علي الآخرين ، وحتي تعثر علي موهبتك فتش عن الشئ الذي تحبه ، والمجال الذي تشغف به ، والعمل الذي تكون سعيداً عندما تمارسه .. من أصدقائي المقربين الشاب الطيب سليمان الهندي ، وهو شابٌ مثابر ، تخرج من جامعتين مرموقتين ، فقد درس الإعلام والعلاقات العامة بجامعة القرآن الكريم ، ودرس الوثائق والمكتبات بجامعة النيلين ، ونال شهادة البكالريوس من كلٍ منهما ، وعمل مديراً للعلاقات العامة بشركة مرموقة ، ولما كان طموحه لا تحده حدود ، فقد جاءني ذات يوم قبل سنوات ، وقال لي ( أريد أن أعمل في مجال البحث عن الذهب ) وكان البحث عن الذهب بواسطة المواطنين في أوجَّهِ في تلك الأيام ، وهو ما يعرف بالتعدين الأهلي ، وتروي الكثير من القصص عن شباب أصبحوا أغنياء من هذا المجال وفي وقت قصير ، فسألته (وأين الذهب ؟!) فقال لي (في ولاية نهر النيل) فقلت له ( لا ، الذهب ليس في ولاية نهر النيل!! ) فنظر الي بإستغراب ، وقال لي في حيرة ( وأين الذهب إذن ؟! ) فقلت له ( الذهب هنا !! ) وأشرت بأصبعي الي رأسه !! قلت له الذهب في رأسك وفي عقلك ، فاستثمر عقلك ، وابحث عن شئ تحبه وابدع فيه ، ولحسن الحظ فقد سمع كلامي وفكر بالأمر ، ووجد أنه يحب الزراعة ، ولديه عددٌ من أفراد أسرته يعملون بالزراعة ويعرفون أسرارها ، وتوارثوا فن الزراعة أباً عن جد ، فقام بتجميع أطرافه ، وإشتري مزرعةً في منطقة بعيدة ، وتعب عليها وتعهدها بالجهد والعمل حتي آتت أكلها ، وإستعان بإخوته وأقاربه الذين لهم دراية بالزراعة ، وإستفاد من خبرتهم وأفادهم كذلك ، ثم إستقال من وظيفته بعد أن قضي عشرةَ أعوامٍ كاملة في الوظيفة ، ثم تخصص في مجال الأعلاف ، وأصبح شخصاً يشار له بالبنان في هذا المجال ، وهو الآن يعمل برأسِ مالٍ يتكون من رقم بجانبه أكثر من تسعة أصفار ، سعيداً ومستمتعاً بحياته ، وكل هذه الإنجازات وهو لم يتعد الأربعين من عمره ، ولله الحمد والمنة .
هذا مثالٌ علي المستوي الشخصي ، أما علي مستوي السودان فلدينا مثالٌ مبهرٌ حقاً ، هو مثال المدربة المعروفة المهندسة نسرين محمود صالح ، والشهيرة بإسم ( نسرين كرافت ) ، مؤسسة ومالكة ( أكاديمية نسرين للتدريب وتنمية المرأة ) ، في العام ٢٠٠٥م تخرجت نسرين محمود صالح من كلية الهندسة بجامعة الزعيم الأزهري ، وتوقع لها الجميع مستقبلاً هندسياً رائعاً ، ولكنها فاجأت الجميع بتخليها عن العمل في مجال الهندسة ، وقيامها بإنشاء أكاديمية لتعليم النساء فنون الأشغال اليدوية !! وبالطبع وقف الجميع ضد هذه الفكرة ، حتي أقرب الأقربين لها ، لم يكن من المألوف أن يترك شخصٌ وظيفة المهندس ، وهي وظيفة لها بريقٌ ولمعانٌ في المجتمع ، ليُلقي بنفسه في أعماق المجهول ، ليبدأ شيئاً لا يُعرَفَ أين أوله ولا أين آخره !! ولكن المهندسة نسرين محمود صالح كانت شخصية ذات همةٍ عالية ، ونظرةٍ بعيدة ، كانت تري آلاف النساء في المنازل ، بلا عمل ولا تعليم ولا موهبة ، ولا صنعة يدٍ تقيهنَّ شر الحاجة وغدر الزمن ، كانت تري وتفهم وتتألم ، وفي نفس الوقت كانت تحب الأشغال اليدوية ، وتجد نفسها فيها ، حباً تسرب إليها من جداتها والكبار في أسرتها ، وهذا الحب دفعها للإشتراك في عدة معارض للفنون والأشغال اليدوية ، وهي لم تزل طالبةً في كلية الهندسة . وحتي تَجمعَ هذا بذاك ، تصالحت مع نفسها ، وأقامت شراكةً ذكية ، بين ما تحبه وما يحتاج إليه الآخرون ، فكانت أكاديمية نسرين كرافت ، والمستهدفين بها هم ربات المنازل ، الذين ليس لهم دخلٌ ولا صنعة ، وفيهم عددٌ من المطلقات والأرامل وذوات الظروف الصعبة ، وقامت بتعليم هؤلاء النسوة تطريز الثياب السودانية ، والطباعة علي الثياب ، والطباعة علي الزجاج ، وعمل الستائر ، وعمل الشموع ، وطائفة من الفنون الأخري ، وأقامت شراكة ذكية مع إحدي الجامعات المرموقة ، لمنح الدارسات الشهادة من هذه الجامعة ، فتدخل الدارسة الي الأكاديمية برسوم بسيطة لا تكاد تذكر ، وتتخرج منها بعد عدة شهور ، ويداها تُلفان بالحرير ، تملك صنعة ً في يدها ، تدر عليها المئات من الجنيهات ، وحاملةً في اليد الأخري شهادة ً من جامعةٍ مرموقة ، إستطاعت نسرين محمود صالح وحدها ومن دون مساعدة من أي جهة ، أخراج المئات من الأسر السودانية من دائرة الفقر ، وإستطاعت نسرين محمود صالح وحدها أن تعطي الأمل والإلهام والثقة بالنفس لآلاف النساء السودانيات ، ولم تكتف بهذا القدر من العمل النبيل ، بل سعت سعياً حثيثاً ، لتُخَرَّج مدرباتٍ من الأكاديمية ليقمن بما تقوم به من عمل ، ويفتحن أكاديميات مثلها ، ويعلمن المزيد من النساء ، لم تحتكر سر المهنة ، ولم تخشَ المنافسة ، ولم تأخذ بثقافة الفقر وإخفاء المعلومات عن الآخرين ، بل كانت تعقد الدورات لتخريج المدربات.

تعليقات
Loading...