د. محمد المخزنجي يكتب :هي.. أو الهمَجية.

الخرطوم :مرايا برس

فى خريف 1912، فى ضاحية المعادى، على مقربة عشرين كيلومترا من قلب القاهرة، شهدت الدنيا تشييد أول محطة ذات حجم صناعى لرفع الماء بالطاقة الشمسية، تتكون من مرايا أسطوانية مستطيلة، هلالية المقطع، مُجمِّعة لطاقة الشمس الحرارية بطول 62 مترا وعرض 4 أمتار لكل منها، مع فواصل تتراوح بين 6 و7 أمتار فيما بينها، وقد تم تشكيل المحطة بآلات شُحنت من تاكونى وخامات وأيد عاملة مصرية وإنجاز على أرض الموقع، وقد اكتملت المحطة فى أواخر عام 1912 إلا أن التجربة الأولى التى أراد شومان إجراءها أمام الجمهور تأجلت بسبب انصهار الغلايات المصنوعة من القصدير الفيلاديلفى، فتم استبدالها بخزانات من الحديد الذى صمد أمام لهيب الشمس المصرية، وفى أغسطس 1913 وأمام حشد من الحضور كان على رأسه اللورد كتشنر نفسه، تم تشغيل المحطة التى أذهلت الحاضرين، وانتقل إذهالها إلى الصحف العالمية الغربية، فقد رأوا الشمس تعمل، والمحرك العملاق يدور بفضل طاقتها لا غيرها، بقوة 55 حصانا، فترفع مضخاته 2000 لتر فى الدقيقة من مياه نهر النيل لرى حقول القطن التى كانت فى المعادى، وقد دفع الانبهار اللورد كتشنر إلى تقديم 12000 هكتار من زراعات القطن فى «السودان البريطانية»! لتُروَى بتقنيات الطاقة الشمسية البازغة سخية الوعود، والتى سرعان ما غابت، بل تم تغييبها قسرا وطمعا ولؤما، وغباوة!

فى خريف 1913 أقنع تشيرشل البرلمان البريطانى بشراء مخزونات ضخمة من النفط بأسعار زهيدة بالطبع لسفن القوات البحرية لتعمل بوقود الديزل، وكانت تلك أول إشارة لتأجيج إحراق مادة النفط الثمينة كوقود، للحرب فى البداية، وربما فى النهاية أيضا. وبسهولة ورعونة وبخس إحراق النفط، بدأت جريمة إحراق أمل بشرى كونى عظيم فى طاقة ربانية ومجانية ونظيفة، هى طاقة الشمس المُستدامة مادام نجمها الأم يشرق على الدنيا. فهل كان فرانك شومان يستشعر ذلك، ويدرك أن إحراق النفط كوقود مُستسهَل ومُسترخَص، يضع نهاية لطموحه فى طاقة الشمس النبيلة على الأرض المصرية؟ ربما، ففى نهاية خريف 1913 ذاته أبحر شومان من الإسكندرية إلى أرض أجداده الألمان، ليرسو فى هامبورج، ويعرض مشروع محركات الطاقة الشمسية الأولى على البرلمان الألمانى، والتقط الألمان الفكرة، ورحبوا بها، لكن ليس على أرضهم التى لا تسخو فيها الشمس بالحرارة، بل فى مستعمرتهم التى كانوا يسمونها «أفريقيا الجنوبية الشرقية الألمانية» التى هى «ناميبيا» الجميلة الآن، فعرضواعلى شومان 200000 مارك لتشييد محطة طاقة شمسية فى مستعمرتهم الدافئة، التى لم يكن بها نفط، بل يورانيوم، تلك المادة التى كانت تنتظر دورها بعد حربين غربيتين فظيعتين، لتكون سببا من سببين أجهضا أبحاث وتطوير الطاقة الشمسية لما يقارب القرن.

ففى الحرب الغربية الأولى، وبعد تكريس النفط كوقود لسفن النار والدمار، صار عنوان تحريك العالم هو النفط المحروق، وفى الحرب العالمية الغربية – أيضا- الثانية، وبعد تفجير قنبلتى الأمريكيين النوويتين فى هيروشيما ونجازاكى، وفرض السلام بقوة النار وطاقة الانشطار، تم تكريس الطاقة النووية كمصدر لكهرباء تضىء عالم البشرية قصير النظر كليل البصيرة، وهاهو العالم يدخل فى مأزق نَهمِه وشراهته للطاقة، مكتشفا بعد طول تأخير وتدليس وتفليس، أن النفط طاقة ناضبة ومادة نفيسة كان من الجُرم إحراقها، وأن الطاقة النووية الانشطارية لعبة خطرة وباهظة الأعباء، ولا أفق فسيح لها، ومن ثم صار حتميا البحث عن طاقات جديدة نظيفة متجددة، وإلا… إلا ماذا؟!

تعليقات
Loading...