د.ناجي مصطفى يكتب:(التطبيع) مع (إسرائيل). ما بين القوسين.

مقالات :مرايا برس

مفردتان وضعتهما بين قوسين وهما مدخل حديثي في هذا المقال حول (التطبيع) مع (إسرائيل) في ظلّ كم كبير من الكتابات متعددة المنطلقات مختلفةِ المناهج والتناول لهذه القضيّة الواضحة الجليّة التي جعلتها الكتابات والمناقشات غير العلميّة ذات ضبابيّة وغبش.
أولاً: مصطلح (التطبيع) مصطلحٌ ولد خارج رحم اللغة العربيّة وخارج حدود ثقافة المواطنين في المنطقة العربية والإسلاميّة، وهذا أول أسباب ضبابيّة هذه القضيّة، أعني أنّ التطبيع هو السعي لكي تكون طبيعيّاً، وهي تهمة مبطنة بأنّ علاقتنا مع الكيان الصهيوني ليست طبيعيّة!، وهذه مغالطة، فنحن وهم نظنّ كمال الظنّ أن الأمور تجري على طبيعتها وفق التسلسل الحربي والإستخباراتي الطويل في المنطقة منذ الإحتلال الصهيوني لأرض فلسطين فهي علاقة طبيعيّة بين عدو مترصّد وصاحب قضيّة يثابر في الدفاع عن قضيته والذود عنها، لذلك دعونا نبدأ بتصحيح المصطلح، إذ المطلوب منّا الآن ليس أن نكون على طبيعتنا وكأننا نتكلف العداء مع أحد أو كأننا ننفعل ونتشنج دون وعي أو أسباب، المطلوب ليس هذا لأنه غير كائنٍ فعلاً، لكن المطلوب هو مزيدٌ من التعامل والتعاون والتداخل على المستوى التجاري والأمني والدبلوماسي وغير ذلك، وهذا التفصيل يجعلنا مباشرة أمام القضيّة الثانيّة الأكثر أهمية.
ثانياً: قضيّة التعامل مع الآخر في ثقافة المنطقة وأديانها جميعاً ليست قضيّة صلبة بل هي قضيّة مرنة جداً، حتى في القرآن الكريم الذي تدين به الغالبيّة العظمى من سكان المنطقة إنّما يمنع الولاء في مثل حالة العدو الصهيوني ولا يمنع التعامل بأنواعه، ولكنّه يضع الشرائط والحدود لهذا التعامل بما يحقق منظومةً حضاريّة مهمة وليس بما يحقق المصلحة فقط، وهذه نقطة جوهريّة فالمسألة ليست نفعيّة مصلحيّة براغماتيّة بحتة إنّما هي مسألة قيميّة ومبدئيّة نفصلها في النقطة التالية.
ثالثاً: أصل مبتغى الحكم والذي نسميه بلغة العصر القيم الإستراتيجية العليا لأي منظومة حاكمة هي ثلاثة أمور مرتبة بحسب الأهميّة وترتب بعضها على بعض كالآتي: السلام ثمّ العدل ثمّ الحقّ، فغاية الإنسان في الأرض هو تحقيق السلام ولهذا هو يتيع الدين من أجل تحقيق السلام في الدنيا وما بعدها، والسلام لا يقوم إلا إذ قام العدل، ومتى اختل العدل اختل السلام، والعدل لا يعرف ولا يقوم إلا بالحقّ إذ الباطل لا يقيم عدلاً البتة، والتعامل مع العدو الصهيوني متاحٌ قطعاً متى حقق السلام والعدل والحقّ، السلام والحقّ والعدل للشعب السوداني ومصالحه وأمنه وسلامة مكوناته وقواته النظاميّة وثرواته، والسلام والحقّ والعدل للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة التي لا يصحّ عدلاً ولا حقّاً التنكر لها، والسلام والعدل والحقّ لكل المنطقة التي يعيش فيها الكيان الصهيوني مع الشعوب المسلمة والعربية ويتناول هذا كلّ قضايا السلام والحرب والرغبات الإستيطانيّة وتحقيق حلم إسرائيل الكبرى وغير ذلك. فمتى تحقق تعاملٌ مع الكيان الصهيوني يحقق قدراً معقولاً من هذه المبادئ الثلاثة ولا ينتقص منها فهو تعاملٌ مطلوبٌ ومرغوبٌ فيه، ولكنّ هذا يتوقف على ما يرد في النقطة التالية.
رابعاً: الحكومة السودانيّة الإنتقاليّة تحيط ملف (التطبيع) بسريّة فائقة تصل في بعض الأحيان للتمويه وإخفاء الحقائق بشأن المقابلات التي تتم بينها وبين مسؤولين من الكيان الصهيوني، ثمّ هي لا تعلن الملفات التي من شأنها أن تتيح للمراقب أن يحكم على مدى التعامل المطلوب ودرجته ومدى خطورته تبعاً لذلك، ثمّ ماهي الخطوات والإجراءات التي تنوي الحكومة اتخاذها لتحقيق مصالح الشعب السوداني من هذا التعامل ودرء المفاسد المحتملة السابق ذكرها، وفي ظلّ هذا التعتيم الغريب من الحكومة فليس أمام الناس سوى التخوّف من أنّ الحكومة تخفي شيئاً تخشى من إظهاره وإعلانه وهذا بحدّ ذاته خطرٌ كبير.
خامساً: الكلمة الثانية التي وضعتها في العنوان بين قوسين هي كلمة (إسرائيل) وكنت في مقالي أسميه العدو أو الكيان الصهيوني نسبة إلى جبل صهيون، أو هو الكيان الإسرائيلي بوصفه كياناً، أما أن نقول (إسرائيل) هكذا، فهذا إعتراف سياسيّ بها كدولة وهو مالا يمكن تقديمه لها مجاناً ودون تفاوض وشروط، وهو مالا يمكن لها أن تنتزعه هكذا بالمكر اللغوي والإعلامي، وإلا حين الإعتراف بها كدولة ذات سيادة في المنطقة وتحقيق السلام معها فهي عدوّ وهي كيان، وليست دولة، هذه قضيّة أساسيّة ومحوريّة ولا يصحّ الإلتفاف حولها بهذه الطريقة التسويقيّة للمصطلح فهذا الأسلوب يحملنا على التخوّف من نوايا هذا الكيان من (التطبيع) ويدعونا للحذر من نواياه التوسعيّة والإستيطانيّة.
سادساً: الكيان الصهيوني كيانٌ أيديولوجي عقدي ديني متشدد، ذو نوايا توسعيّة في المنطقة يجاهر بها ولا يخفيها، ويطمع لإقامة دولته الكبرى على أرض النيل والفرات، وهو كيان إستيطاني إستخباراتي يقوم بإختراق الأنظمة والمكونات الأمنية والمجتمعيّة حيثما استطاع، ومالم تكن لدينا ولدى الحكومة إجابات واضحة ومقنعة حول التعامل مع هذا الملف وضمانات أن يكون التعامل (التطبيع) مع الكيان الصهيوني محققاً للسلام ولا مضارّ أمنيّة وإقتصاديّة منه سيكون هذا (التطبيع) مجرد إنزلاق في هاوية الفروض والإملاءات الدوليّة للحكومة الإنتقاليّة ذات الخبرة السياسيّة القصيرة جداً.
سابعاً: يجب الأخذ في الإعتبار مسألة سلوك الكيان الصهيوني في ملف علاقاته الخارجيّة، والأطر التي يتعامل بها مع قرارات الأمم المتحدة ومدى إلتزامه بتطبيقها، ومدى مساهمته في المساعدة على تطوّر الأنظمة السياسيّة والإقتصادية في الدول ذات العلاقة المفتوحة معه.
ثامناً: يجب أن يكون قرار قبول التعامل أو عدم التعامل مع الكيان الصهيوني قراراً نابعاً من إرادة الشعب، إذ الوصاية على الشعوب مرفوضة وتجاوز أرادتها مرفوضٌ أكثر، فمن حق الشعب أن يعبّر هو عن هذه القضيّة عبر ممثلين منتخبين أو حكومة منتخبة أو بالإستفتاء الشعبي. وما يُذكر بأنّ الحكومة الانتقاليّة الحاليّة ليست حكومة إنتقالية تقليدية بل هي حكومة تأسيسيّة حديثٌ عارٍ عن الصحّة الدستوريّة، إذ لا معنى قانوني أصيل لكون الحكومة تأسيسيّة سوى قيامها بتلك المهام التأسيسيّة للتحوّل الديمقراطي والذي تقوم به الحكومة الإنتقاليّة في العرف الدولي المعهود والي لا يزيد الحكومة وصفاً آخر سوى كونها حكومة انتقاليّة.

تعليقات
Loading...