د. ياسر محجوب الحسين يكتب:تسليم البشير.. رغائب الداخل وأهداف الخارج

الخرطوم :مرايا برس

مرايا برس 

أمواج ناعمة.. د. ياسر محجوب الحسين 

بين رغائب الداخل السوداني المترع بغريزة الانتقام وأهداف القوى العظمى المتجبرة، تضيع حقائق قضية دارفور المتطاولة، حيث يراد لها إسدال ستار العرض قسرا وبدون نهايات منطقية بتسليم رئيس دولة سابق إلى المحكمة الجنائية الدولية. المسرحية كتبتها وأخرجتها القوة الدولية المتجبرة ضمن بازار المسرح الدولي الآثم لشيء في نفس يعقوب وقطفت ثماره وقضت منها وطرها، بينما الداخل السوداني الذي تستبد به نشوة السلطة يريد تمديد ليالي العرض الحمراء فيما ظلت أعناقهم لسكرة الصولجان خاضعة.

عندما سقط نظام الرئيس عمر البشير في أبريل 2019، لم تعد القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في حاجة للعزف على وتر قضية دارفور ولا المحكمة الدولية الجنائية، وهي أداة سياسية من أدوات الإمبريالية المتنفذة، إذ كان المقصود إسقاط نظام البشير وحسب. لم يكن الاستثمار الآثم في قضية دارفور إلا جزءاً من سياسة واشنطن المعروفة بسياسة الراية الخداعة False Flag Policy وملخص هذه السياسة، التخفي وراء قضية مصنوعة لتحقيق أهداف لا علاقة لها بالقضية التي تقرع لها الطبول، وهذا ما حدث في حرب العراق وما يسمى بالحرب على الإرهاب وغيرها. داخليا كان لخصوم البشير لرفع راية خداعة لإشفاء غليلهم السياسي والانتقام من البشير بالمضي قدما في تسليمه للمحكمة الجنائية، فقد قررت الحكومة السودانية الأربعاء الماضي، تسليم البشير واثنين من مساعديه إلى تلك المحكمة.

حتى المحكمة الجنائية نفسها وعندما يئست من القبض على البشير كانت قد قررت حفظ التحقيقات، وأحالت الملفّ إلى مجلس الأمن الدولي بعد رفض دول عديدة التعاون معها في القبض على البشير مثل كينيا وجيبوتي ومالي والكونغو وتشاد وجنوب أفريقيا وغيرها. وقام البشير بعشرات الرحلات الخارجية منذ صدور مذكرتي التوقيف أصدرتهما المحكمة بين عامي 2009 و2010 في حقه، وبدت تلك الرحلات المتحدية كرحلات المغامرين. ولم تكن وجهات البشير محصورة في محيطه الإقليمي بل سافر إلى الصين وأندونيسيا والهند وجنوب إفريقيا، كما لم تكن قاصرة على الدول غير الأعضاء في المحكمة بل شملت الدول الأعضاء والملزمة قانونا بالقبض عليه وتسليمه إليها.

قبل ذلك كان الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق كوفي عنان قد أكد في فبراير 2005 بتحسن الوضعين الإنساني والأمني في دارفور، بعد زيارة شهيرة للإقليم، بل طالب الحكومة والمتمردين على حد سواء ببذل الكثير من الجهد لزيادة تحسين الأوضاع والتوصل إلى حل سياسي، وتزامنت زيارة عنان تلك مع صدور تقرير لجنة أممية مستقلة كان قد شكلها لتقصي الحقائق في قضية دارفور، ورغم إدانة التقرير للحكومة السودانية، إلا أن الإدانة لم ترقَ لمستوى الإبادة الجماعية التي وردت لاحقا في صحيفة الاتهام التي أصدرتها المحكمة في حق المطلوبين. كما شملت اتهامات اللجنة الفصائل المسلحة في الإقليم بنفس القدر باعتبارها كذلك مسؤولة عن انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان. ومن سخريات القدر أن الأسبوع الماضي شهدت دارفور تنصيب أحد قادة الفصائل المسلحة والمتهم بارتكاب جرائم في دارفور حاكما لإقليم دارفور وسبق له أن عين بعد ذلك التقرير في منصب كبير مساعدي البشير قبل أن يعود مرة أخرى للتمرد على البشير. حتى رئيس المجلس السيادي الانتقالي الحالي الجنرال عبدالفتاح البرهان كان قائدا ميدانيا في دارفور لسنوات طوال في خضم الأزمة تحت إمرة البشير.

الولايات المتحدة الأمريكية نفسها التي استخدمت المحكمة الجنائية لإسقاط نظام البشير وتخفت وراء مزاعم أخلاقية لا تَعترِف بالمحكمة الجنائية ولم تُصادق على ميثاق روما الذي انبثقت عنه، كما أن لا ماضيها في فيتنام ولا حاضرها في العراق وأفغانستان يؤهلانها أخلاقيا لاعتلاء منصة الأستاذية في الأخلاق. والولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تنشر قواتها في طول العالم وعرضه، ولديها أكثر من 20 قاعدة عسكرية موزعة هنا وهناك. كما أن البشير ورفاقه مع افتراض صحة الاتهامات في حقهم لا يبلغ جرمهم جرائم دولة الاحتلال الإسرائيلي الصّديق االودود الجديد للحُكومة السودانيّة الراهنة، فلم تمتثل إسرائيل مُطلقًا لقرارات المحكمة الجنائية التي سبق أن طالبت بتسليم العديد من مُجرمي الحرب الإسرائيليين لجرائمهم افي قطاع غزّة والضفّة الغربيّة وجنوب لبنان.

ومع هذه الزوبعة التي يثيرها خصوم البشير في الخرطوم لا يبدو أن واشنطن التي سارعت بتأييد قرار الخرطوم ولا حتى المحكمة نفسها لهما ذات الحماس والتوثب الضاري الذي يستبد بحكومة الخرطوم؛ فقد ترك مدعي المحكمة الجنائية الدولية كريم أسد خان الذي زار الخرطوم الأسبوع الماضي الباب مواربا حول ما إذا كان بالفعل سيسلم البشير ليحاكم بمقر المحكمة بلاهاي، حيث قال في مؤتمر صحفي بالخرطوم: “إذا رأى أن للقضاة إمكانية عقد المحكمة في أي مكان يرونه فإن الأمر يعود إليهم”. مضيفا: “إن بعثة للمحكمة ستقيم في الخرطوم بشكل دائم”. ومن مفارقات هذه القضية الملتبسة أن أسد خان تولى في وقت سابق الدفاع عن أحد متهمي المحكمة في قضية دارفور الذي حصل على البراءة وشغل منصب وزير الصحة في حكومة البشير حتى سقوطها.

السؤال المطروح بصورة ملحة هل انتهت أزمة دارفور بعد ثلاث سنوات من سقوط حكم البشير أن الإقليم لم يزل ملتهبا؟. وهل سيعم الأمن والاستقرار الإقليم بعد محاكمة 3 أشخاص ضمنهم الرئيس البشير؟. السنوات القليلة الماضية شهدت خلالها دارفور أحداثا مروعة تقتيلا وتهجيرا وعنفا منظما. عموما يبدو أن البشير ورفاقه سواء حُكموا في لاهاي أو الخرطوم فلا يضير الشاة السلخ بعد ذبحها، وهو أعلى ما في خيل خصومه ليركبوه، بل قد توفر له المحاكمة ظروفا أفضل، خاصة إذا ما عقدت بلاهاي وتمكنه من كشف الكثير من المعلومات والحقائق.

تعليقات
Loading...