د.ياسر محجوب الحسين يكتب : أزمة الشرق..نقص القادرين على التمام. 

الخرطوم :مرايا برس

الخرطوم :مرايا برس 

أمواج ناعمة..د.ياسر محجوب الحسين 

مع احتدام الصراعات السياسية في السودان، بحيث لا تكاد تخلو منطقة منها، إلا أن أزمة شرق البلاد تكاد تكون الأكثر بروزا وتهديدا للأمن القومي. ولربما أراد قادة “انتفاضة” قبائل البجا أن يكون ذلك التصعيد الخطير هدفا في ذاته؛ فالمركز لا يأبه بالاطراف ما لم تقلق صوت البنادق نومه أو يمنع عنه انسياب مقومات الحياة من دقيق وبترول ودواء. اليوم الخرطوم تكاد تختنق بسبب إغلاق الطريق الرابط بين موانيء البلاد على البحر الأحمر وبقية أجزاء البلاد من قبل قبائل شرق السودان.

لقد بدأت ظاهرة التنظيمات القبلية والجهوية مثل مؤتمر البجا في شرق السودان، واتحاد عام جبال النوبة في جنوب كردفان، وجبهة نهضة دارفور في البروز في حقب سابقة لنظامي جعفر النميري وعمر البشير، وذلك بعد ما عرف بثورة أكتوبر 1964، وخاض بعضها انتخابات 1965. وأدت المتغيرات السياسية المختلفة بعد العقد الأول من القرن الواحد وعشرين إلى ظهور كيانات جديدة توّجت بمسمى جبهة الشرق.

وبنت هذه التنظيمات خطابها السياسي على المطالب التنموية ذات العلاقة بنطاقها الجغرافي؛ على سبيل المثال ركز مؤتمر البجا في ميثاقه في نهاية خمسينيات القرن الماضي على ضرورة استغلال ثروات شرق السودان المعدنية بالتصنيع، وتطبيق الحكم اللا مركزي، وإقامة المستشفيات وإقامة السدود والآبار الجوفية، وأن كل فرص العمل في شرق السودان حق مكتسب لقبائل البجا، فضلا عن مطالب المشاركة في السلطة المركزية.

ولعل التطور الأسوأ في خضم تلكم النعرات القبلية والجهوية، ظهور حركات تمرد مسلحة مناطقية، تدعو إلى إلغاء التهميش في الفضاءات الجهوية. فغدا الصراع السياسي إلى صراع مركب: صراع سياسي قبلي قد لا تكون القبيلة فيه حاضرة بتقاليدها المعهودة، ولكن بقياداتها العليا، وأن أسمت نفسها حركات تحرير. ويشير التاريخ القريب أنه كان لمؤتمر البجا معسكرات للتدريب في ارتريا بعد استقلالها من أثيوبيا في 1993م. وعندما بدأت العمليات العسكرية للتمرد في شرق السودان، كانت قوات مؤتمر البجا مشاركة مع القوات المعارضة الأخرى التي توغلت داخل السودان ما بين عامي 2000-2002. بيد أنه في 2007م توصل مؤتمر البجا لاتفاق مع الحكومة ودخلت قيادات جبهة الشرق في الحكومة الاتحادية وولايات الشرق، وأصبح رئيس الجبهة مساعداً للرئيس السابق عمر البشير. وبدا أن أهل الشرق سعيدون بما سمي باتفاق سلام الشرق عدا قيادات سياسية أرتبطت تنظيميا وهيكليا بالمعارضة لاسيما ما عرف بالجبهة الثورية السودانية وكان من نصيبها منصبا وزير التربية ووالي كسلا إلا أن الاحتجاجات عطلت تمتعهم بهذين المنصبين. وتضم الجبهة الثورية الجماعات المتمردة الخمس الرئيسية، وعلى رأسها حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان، وكلاهما من إقليم دارفور في غرب البلاد، والحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال) التي ظلت تقود تمردًا ضد الحكومة السودانية في جنوب كردفان والنيل الأزرق.

اتفاق سلام جوبا والموقع في 31 أغسطس 2020 في عهد الحكومة الانتقالية الحالية، تضمن ما عرف بمسار الشرق حيث يطالب المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة بالغائه والرجوع إلى مقررات مؤتمر سنكات واتفاقية سلام الشرق آنفة الذكر حيث أعتبر مسار الشرق بمثابة ناسخ لاتفاقية سلام شرق السودان. ويرى معارضو مسار الشرق أنه بعد سقوط نظام البشير أرادت الحركات المسلحة من خارج إقليم شرق السودان إدخال مسار الشرق، ليكون لديها وكلاء في الإقليم، بل أن المسار يمهد لاستقرار مكونات أجنبية بالبلاد، ومشاركتها في حكم البلاد. وأشعل “مسار شرق السودان” في اتفاقية السلام الأوضاع في المنطقة، ووجدت الحكومة الانتقالية نفسها بين خيارين لا ثالث لهما، فإما إلغاء مسار الشرق استجابة للمجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة، أوالتمسك به واستمرار إغلاق شرق البلاد بما في ذلك موانئ البلاد على البحر الأحمر.

ولعل ما استفز المحتجين وأثارة حفيظتهم سعي ما يعرف بقوى الحرية والتغيير الحاضنة السياسية لحكومة عبد الله حمدوك إلى فض اعتصام قبائل الشرق بالقوة العسكرية بينما لم يستجب الجنرال عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة والقائد الأعلى للجيش لهذا الطلب الذي بدا غير ناضج ورغائبيا. وهذا مما دعا المحتجين إلى رفع سقف مطالبهم والدعوة لحل حكومة حمدوك واستبدالها بحكومة كفاءات وذلك ما ينسجم مع ما نصت به الوثيقة الدستورية فضلا عن أنه مطلب من مطالب المكون العسكري.

الأمر الآخر نجد أن برتوكول تقسيم السلطة ضمن مسار غرب السودان قد أغدق على حركات تمرد دارفور بينما لم تنل المسارات الأخرى لا سيما شرق السودان إلا النذر اليسير. فقد نص مسار الغرب الموقع مع حركات دارفور، على تخصيص 20% من الوظائف في الخدمة المدنية والسلطة القضائية والنيابة العامة والسفراء والبنوك والشركات العامة لأبناء الإقليم، على أن يتم ذلك بقرار سياسي خلال 45 يوما من توقيع الاتفاق. كما نص أيضاً على إعفاء أبناء دارفور في الجامعات والمعاهد العليا من الرسوم الدراسية لمدة 10 سنوات قادمة، ومنحهم 20% من المنح الدراسية الخارجية. ومع هذا الاغداق تزايدت حالة الانفلات الأمني مع دخول جيوش الحركات المسلحة إلى العاصمة الخرطوم كما تصاعد في خطاب الشحن المناطقي والعنصري بشكل يهدد السلم المجتمعي.

ما الذي يمنع إلغاء مسار الشرق والاستعاضة عنه باتفاقية سلام شرق السودان وإن تطلب الأمر بعض التعديل، إذا ما كان ذلك يمنع انزلاق الاوضاع للاسوأ؟. أم صدق المتنبئ حين قال:

ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا *** كنقص القادرين على التمام

تويتر: yasir_mahgoub@

تعليقات
Loading...