د. ياسر محجوب الحسين يكتب : أفغانستان.. جدلية النصر والهزيمة.

الخرطوم :مرايا برس

مرايا برس 

أمواج ناعمة… د. ياسر محجوب الحسين 

من يتتبع الحروب المعاصرة يجدها من حيث الانتصار والهزيمة قد تمترست في فضاءات رمادية أو حالات من اللا نصر واللا هزيمة؛ لكن المتفائلين يعزون ذلك لتوسع المدارك بشأن فهم منطلقات وأسباب الحروب حيث وفّر عصر المعلومات تنزيل أحكاما أكثر واقعية وموضوعية. على كل فقد اختفت مواكب القوات المظفرة العائدة، وحلّـت النصب التذكارية محلّ أقواس النصر. وحتى الطرف الذي يدعي نصرا بزعم أنه حقق أهدافه ولو بعضها، فعادة ما يكشف الواقع المرير أن ثمنا باهظا قد تكلفه مما يجعله غير قادر على تذوق النصر المزعوم. ومع مرارات النصر فإن محاولات إقناع الرأي العام المستميته هو المسحوق الذي تُغطى به حجم التكاليف المادية والبشرية والمعنوية المبذولة.
هناك من يجادل بأن معاييرا أو دلالات رمزية قد تشير إلى نصر ما؛ مثل توقيع اتفاقية قد تقر نتائج الحرب لمصلحة أحد الطرفين ولو ضمنا. فلسفيا ليس بالضرورة يكون النصر حليف القوة المادية والترسانات العسكرية إذا ما كانت القضية التي شُنّت الحرب من أجلها قضية عادلة. وحسب الجنرال والمؤرخ الحربي البروسي كارل فون كلاوزفيتز وقد تركت كتاباته حول الفلسفة والتكتيك والإستراتيجية أثرا عميقا في المجال العسكري؛ حيث أشار إلى أنّ وجود سبب أخلاقي لدى أحد طرفي الصراع يحفّزه لاستنفار طاقاته وقدراته لدفع العدوان، وأنه وإن كان ضعيفًا ماديًا فهو الأقوى، على المدى البعيد، ذلك أنّ فاعلًا مهمًا يشكل حاضنة للقضية العادلة، وهو الرأي العام محليًا، وفي بعض الحالات دوليًا أيضًا.
أمس الجمعة أعلن عن انسحاب القوات الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي “الناتو” بالكامل من قاعدة باغرام الجوية قرب العاصمة الأفغانية كابل. المتحدث باسم وزارة الدفاع الأفغانية أكد أن جميع القوات الأمريكية والأجنبية غادرت القاعدة التي ظل الأمريكيون يتمركزون فيها منذ غزوهم أفغانستان قبل عشرين عاما. لا شك أنه نصر للمقاومة الأفغانية بمعايير كلاوزفيتز؛ فقد كافح الشعب الأفغاني العدوان الخارجي وناضل بقدرات مادية وعسكرية ضعيفة لكنه أمتلك قدرة معنوية هائلة بمواصفات نووية دفاعا عن أرضه واستقلاله وكرامته. وكانت القوات الأمريكية الغازية قد سلمت كل القواعد العسكرية في البلاد باستثناء قاعدة باغرام، بعد اكتمال انسحاب القوات الألمانية والإيطالية المشاركة في مهمة الحلف الأطلسي.
بكل تأكيد أن انسحاب القوات الأمريكية وحلفاؤها ليس نهاية المطاف، إذ أمام الأفغانيين طريقا طويلا لتحقيق السلام والاستقرار لوطنهم المثخن بالجراح. ولعل إعلان حركة طالبان التي مثلت المقاومة في وجه القوات الغازية بأن انسحاب القوات الأمريكية الكامل سيمهد الطريق أمام الأفغان ليقرروا مستقبلهم يؤسس لآمال عراض بشأن مستقبل أفغانستان. وفي ذات الوقت على الحكومة الأمريكية دعم الجهود الايجابية وألا تخرج بالباب وتعود بالنافذة عن طريق دعم أي فصيل دون الآخر لا سيما الحكومة الأفغانية التي ظلت حليفة لها، تدعم حوار فعلي وبنّاء حول مستقبل البلاد لا يستثني طرفا من الأطراف الداخلية.
إن استمرار التدخل الأمريكي في البلاد بشكل سلبي حتى بعد الانسحاب سيبرر لطالبان استمرار عملياتها العسكرية. وبدا ذلك من خلال إعلان واشنطن أنها ستواصل دعمها لما أسمته قوات الدفاع والأمن الوطنية بعد انسحابها. في ذات الوقت أظهرت مقاطع بثتها طالبان أمس الأول استسلام العشرات من القوات الحكومية الأفغانية لمقاتلي الحركة شمالي أفغانستان.
الشعب الأفغاني المنهك يأمل في تقف معاناته عند حد الانسحاب من باغرام وألا تمتد إلى موعد انتهاء مهمة الناتو، المسماة بـ”الدعم الحازم” والمقرر لها سبتمبر المقبل وأن تستغل هذه الفترة في الوصول إلى وقف شامل لاطلاق النار وتهيئة أجواء الحوار المخلص. ولعل تصريحات قالها رئيس لجنة المصالحة الأفغانية عبد الله عبد الله، بإن انسحاب القوات الأجنبية أحدث فجوة أمنية كبيرة في أماكن كثيرة، يعتبر سلبيا ويمثل تناغما مع سياسة القوات الأمريكية وحلفائها. وكان يرجى منه أن يصدع بما يدعم ايجابا جهود المصالحة والتعافي الوطني، لا سيما من موقعه في رئاسة لجنة المصالحة. ربما التغييرات الميدانية والسياسية الأخيرة في البلاد تستدعي الكثير من التغيرات التي تدعم الاستقرار والتعافي.
لقد حكمت حركة طالبان أجزاء كبيرة من أفغانستان في الفترة (1996-2001)، قبل أن تبدأ القوات الجوية الأمريكية والحليفة في نوفمبر 2001 بضرب المدن والأهداف المختلفة في أفغانستان في اطار ما أسمته بالحرب على الارهاب، وعلى اثر الضربات القوية، قررت الحركة الانسحاب والاختفاء من المدن والتمركز في الجبال والقرى البعيدة، والانتقال لمرحلة جديدة من حرب العصابات التي تجيدها. ومكن تكتيك حرب العصابات طالبان من الاحتفاظ بالمبادرة مستفيدة من التعقيد التضاريسي. وتمكنت طالبان في الفترة الأخيرة من السيطرة على أكثر 120 منطقة. لعل نصر المقاومة الأفغانية تمثل في توقيع الولايات المتحدة اتفاقا مع طالبان في قطر قبل نحو عام، تضمن شروط الخروج الأمريكي مع عدم تضمن الاتفاق شرطا بنزع سلاح طالبان.
وبالمقارنة بين القوات الأمريكية في العراق وتلك التي تورطت لاحقا في أفغانستان، نجد أن تلك التي كانت في العراق كانت تخشى من الهزيمة بأكثر مما تأمل في النصر، بينما القوات التي تورطت في أفغانستان ظلت تأمل فقط في الخروج بخسائر مقبولة. لقد خرجت واشنطن من أفغانستان دون أن تنجح في ارساء ديمقراطية عبر الآلة العسكرية بل زادت من حجم معاناة المدنيين. فهل كان صانعي السياسة الأمريكية يخفون أجندة سرية لا علاقة لها بما أعلنوه تبريرا لاحتلالهم للبلاد؟ نعم هذا ما تكشف بالفعل بكل تأكيد. فقد تأبط المسؤولون الأمريكيون حلية قديمة استخدموها اعلاميا في حرب فيتنام تتضمن التلاعب بالرأي العام لكسب الدعم من أجل تمديد فترة التواجد العسكري خارجيا.

تعليقات
Loading...