د. ياسر محجوب الحسين يكتب :الحق أبلج.. عندما يصدع الضمير الغربي.

الخرطوم :مرايا برس

قبل نحو 27 عاما لم تكن القوة التي أجبرت أعظم جيش في العالم وفي معيته حلفاء من قوى عظمى أخرى على الخروج صاغرين من أفغانستان في المسرح الدولي. وإن كان خروج قوة أعظم أخرى من أفغانستان قبل 32 عاماً بعد هزيمتها من قوة أفغانية محلية مماثلة، أمر قد بدا وكأنه أول مسمار في نعش الاتحاد السوفييتي السابق؛ فإن دحر طالبان الأفغانية اليوم لجيش الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها قد يؤشر كذلك لمسمار جديد لنعش جديد في سياق ملهاة دولية. ضمير المنظومة الغربية، وليس مؤيدي ومناصري طالبان قد صدع اليوم بهذه الحقيقة التي قد تكون وشيكة بحساب نسبي. ديفيد هيرست الكاتب البريطاني المؤثر ومدير تحرير موقع ميدل إيست آي وكبير الكتاب في صحيفة الغارديان البريطانية سابقا، قال في مقال جهير ضجت به الأسافير أن الغرب الذي يمثل في مجموعه القوة الأعظم نجح فقط في نشر توحش وبؤس الحرب في أفغانستان على مدى عقدين، وأن حساب تكلفة التدخل الغربي في أفغانستان بعدد الأرواح العسكرية الأمريكية والبريطانية التي أزهقت هو الدليل القاطع على أننا حضارة تتآكل.
الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني الذي غادر في جنح ليل كادت أضاءات مدافع طالبان أن تكشفه، كان دوره أقـرب للـدور الوظيفـي فـي خدمـة الاحتـلال الغربي، ولم يصمد بعد مغادرة الجيوش الغربية سوى بضع أسابيع. سقوط غني حقق مقولة ظل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يرددها وظن البعض حينها أنها مجرد هزيان أو ابتزاز، مفادها أن عددا من الحكومات التي تسندها بلاده لن تمكث أكثر من أسبوعين في السلطة فيما لو غادرت الولايات المتحدة تلك البلاد. وهو ما علق عليه هيرست بأن المحتلون والطغاة الذين ينتهكون حقوق الإنسان الأساسية تتم مكافأتهم بالمال والسلاح، وأن الفساد يغذيه دافعو الضرائب في الولايات المتحدة، بينما الذين يعانون بسبب ذلك كله فلا يلتفت إليهم.
منذ الاحتلال الغربي لأفغانستان أرتفعت مساحة الأرض المزروعة بالأفيون في عهد الحكومات التي عينتها الجيوض الغربية من 84 ألف هكتار، إلى 328 ألف هكتار بحلول عام 2017. وجاءت أفغانستان في المرتبة الـ165 من أصل 180 بلداً تخضع للرصد من قبل منظمة الشفافية الدولية، وقد ابتلع مليارات الدولارات من المساعدات الاقتصادية، كما أن معدلات الوفاة في البلاد تعتبر من بين الأعلى في العالم. وبعد التخلي العظيم يفر المحتل من عملائه وجوقتهم كما يفر الصحيح من المجزوم، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قال بعد فرار غني ومؤيديه إن أوروبا “عليها أن تتوقع وعلينا أن نحمي أنفسنا من تدفق كبير غير نظامي للمهاجرين”.
لم يستوعب الغرب درس الاتحاد السوفييتي ولا دروس التاريخ الاسلامي؛ فمن أعظم الانتصارات التاريخية التي تمثل إعجازًا في تاريخ الحروب، كانت انتصار الجيوش قليلة العدد والعتاد على ما سواها بشكل مستمر، التي توفرت لها شرط مهم عصي الاستيعاب، وهو واليقين بالله وأن النصر من عنده وحده حيث تستجمع قوة معنوية مدمرة لأن الهدف هو في سبيل الله. التاريخ يحدثنا أن معركة اليرموك، جرت بين المسلمين بقيادة خالد بن الوليد، وجيش الإمبراطورية البيزنطية، في سنة 13هـ، وكانت معركة مهمة في التاريخ لأنها كانت بداية انتصارات المسلمين خارج الجزيرة العربية، وقد استمرت بعدها الفتوحات حتى وصل المسلمون بعد قرن منها إلى مشارف باريس. وفيما كان تعداد جيش المسلمين 36 ألف مقاتل، كان تعداد الجيش البيزنطي 240 ألفا. وكان الحال كذلك مع غزوة بدر التي حدثت في 17 رمضان في العام الثاني من الهجرة.
وطالبان قوم أفرختهم مـدارس العلـوم الإسـلامية ليشـكلوا حالـة مـن الإنقـاذ لشـعب أنهكتـه صراعـات المكونـات السياسـية واقتتالهـا بعـد مغـادرة الاتحـاد السـوفييتي. فأستوعبتهم قوة معنوية قبل أن يجيدوا فنون القتال والكر والفر. فقد حصدت طالبان أهميتهـا وفاعليتهـا مـن أهميـة الديـن الاسلامي في مجتمعها، باعتبارهـا حركـة دينيـة تغيريـة، وساعد على ذلك أن الشعب الأفغـاني شعب شديد التدين ويعلي من قيمة العلمـاء وطـلاب العلـم.
لكن ثمة مشفقون يساورهم القلق على أفغانستان فيما بعد انتصار طالبان الثاني ومدى قدرتها على تجاوز أخطاء الماضي. فقد تبنـت خـلال حكمهـا السالف عـدداً مـن الأهـداف هـي في مجملها دينيـة، منطلقـة مـن موقعهـا في السـلطة الـذي تـراه يحتـم عليهـا المحافظة علـى الديـن والأخـلاق الإسـلامية للشـعب، فشـرعت في أسـلمة النظـام والمجتمـع معـاً برؤية وفهم يخصانها. وأهتمت بحجـاب المـرأة وإلزامهـا به في جميـع المجـالات ومنعت عملها، فضلا عن تأسيس هيئـات للأمـر بالمعـروف والنهـي عـن المنكـر، وفرضـت قوانينهـا الخاصـة المتمثلـة في منـع دور الغنـاء والرقـص والموسـيقى والفـن والإنتـاج التلفزيـوني والتصوير، والالتـزام بالشـكل والـزي المحـدد؛ كالعمامـة واللحيـة للرجل. بيد أن المتابع لطالبان يجد أنها فيما بعد العام 2010 كان هنـاك تغييرا واستيعابا لدروس تجربتها في الحكم. وأعلن زعيم طالبان السابق فيما بعد أن أسماه بإمـارة أفغانسـتان الإسـلامية لا تسـعى إلى احتـكار السـلطة والاسـتيلاء عليهـا، لأن مسـؤولية حمايـة أفغانسـتان والدفـاع عنهـا تقـع علـى عاتـق كل الأفغـان، فلهـم جميعـاً حـق المشـاركة في الحكومـة وفي صناعـة القـرار”. واليوم أطلقت طالبان أيضا رسائل في هذا السياق مما يشي بتطور نوعي في أسلوب ومنهج حكمها.
إن تأثير طالبان في حال نجاحها في السيطرة التامة على البلاد وتنزيل رؤيتها على أرض الواقع فسيتعدى الحدود بدون شك؛ ولعل باكستان ستكون الأكثر تأثرا وربما يفضي ذلك إلى نسخة طالبانية تستحوذ على باكستان الدولة النووية. عرقيـة البشـتون المؤثرة في أفغانسـتان، لهـا امتـداد جغـرافي داخـل الأراضـي الباكسـتانية، بل أن بشـتون باكسـتان أكثـر عـدداً مـن البشـتون الأفغـان.

تعليقات
Loading...