د. ياسر محجوب الحسين يكتب : الدب الروسي..كَرٌّ وفَرٌّ أم تراجع

الخرطوم :مرايا برس

أمواج ناعمة.. د. ياسر محجوب الحسين

لا يبدو أن الهدف التكتيكي للولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو من دعم أوكرانيا في الحرب الحالية مع روسيا وعلى المدى المتوسط هو أكثر من إخراج روسيا من أوكرانيا، ومن ثمّ تهيئة الأجواء لانضمامها لحلف الناتو. أما القضاء الكلي على الدُّب الروسي فهو هدف استراتيجي غير أن وقته لم يحن بعد ولا يجب أن يتم عن طريق حرب عالمية ثالثة يكون الكل فيها خاسرا بما في ذلك المنتصر. ولذا سارعت واشنطن بالتأكيد على عدم منح أوكرانيا أسلحة وصواريخ بالستية بعيدة المدى قد تضرب العمق الروسي. وكانت موسكو قد حذرت واشنطن بإنها ستصبح طرفاً فى النزاع، حال قررت تزويد كييف بصواريخ بعيدة المدى. وفي خلد الولايات المتحدة وحليفاتها أنه كما تم تفكيك الاتحاد السوفييتي السابق بالقوة الناعمة المحروسة بالقوة العسكرية فيمكن تكرار ذات السيناريو. واليوم تتوجس موسكو مما عرف بـ”وثيقة كييف الأمنية” باعتبارها مدخلا لإحلال التفاوض بديلا للبندقية،وترى فيها مشروعا لتحضير كييف للانضمام لحلف الناتو، وهو الأمر الذي بسببه شنت روسيا حربها على أوكرانيا باعتبار ذلك تهديدا استراتيجيا لوجودها.

وفي الطبيعة يُعرف عن الدب الأبيض شراسته النمطيّة، إلا أنه عادةً ما يكون حذرافي مواجهة مصدر الخطر، حيث يفضل التراجع عوضا عنالقتال. لكنه صياد ماكر، فهويصطاد عن طريق التسلل والتربص، وفي العادة لا يُشعر طريدته بوجوده إلا بعد أن يهاجمها. وسواء كان التراج الأخير للجيش الروسي في شرق أوكرانيا عملية كرٍّ أم فرٍّ، فإن الجيش الأوكراني تلقى من حلف الناتو دعما معلوماتيا وبأسلحة نوعية غير مسبوق، باعتراف الأمين العام للحلف، مما أحدث فرقا على أرض المعركة.

لكن الروس يزعمون أن الكَرَّة الأوكرانية الأخيرة عليهم حققت فقط انتصارا إعلاميا إذ أن الفَرَّ الروسي لم يكن إلا انسحابا ضمن خطة معدة تحت ظروف معينة. فهل حقا تعمدت روسيا التراجع أم أن الناتو قد أجبرها على التراجع عبر الأداة الأوكرانية وبدأ فصل جديد من فصول الصراع بين القوتين العُظميين؟. ربما بالفعل تراجعت روسيا تكتيكيا وهي تحاول امتصاص ضربات الدعم الغربي النوعي لأوكرانيا، وهو دعم في المحصلة ليس لأجل عيون كييف ولكن لأهداف استراتيجية بعيدة المدى. فثمة من يعتقد أن روسيا ستركز على سلاح الغاز مع اقتراب فصل الشتاء وستنظر ماذا فاعلة أوروبا التي تشكل العضوية الغالبة للناتو، فمن بين 30 دولة في الحلف، هناك 27 دولة أوروبية. وتعول موسكو على فشل كل محاولات أوروبا الاستغناء عن الغاز الروسي الرخيص، وقد دعت رئيسة المفوضية الأوروبية إلى خفض استهلاك الكهرباء في أنحاء الاتحاد الأوروبي، وإلى فرض ضرائب استثنائية على شركات الطاقة، في مواجهة ارتفاع الأسعار. وأحيط البرلمان الأوروبي علما بإن أسعار الغاز والكهرباء سجلت أعلى مستوياتها على الإطلاق منذ بدء الحرب على أوكرانيا. في حين تعثرت خططا غربية بشأن وضع سقف لأسعار الغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي، بعد تهديدات روسية باتخاذ المزيد من العقوبات تجاه أوروبا.

اليوم يحتاج كل الخبراء والمحلليين السياسيين والعسكريين لوقفات مَليّة لمحاولة فهم ما يجري في تلك المنطقة؛ فمن قبل كادوا أن يجمعوا على أن هناك تحولاً عميقا في حركية العقل الروسي وإستراتيجيته تجاه الفضاء الجيوسياسي المحيط، وفي ما أبعد من الفضاء المحيط. بل أن كاتبافي مجلةفوربس الأمريكية زعم أنه فيحال قررتروسيامهاجمةدولالبلطيقفيمكنهااحتلالهابالكاملخلال 2 – 3 أيام،ولنيستطيعحلف الناتوخلالهذاالوقتالاستجابةسريعاباتخاذقرارمنسقمؤكدا أن هذاالأمرظل يشكلقلقالواشنطن.

وربما الذي يشكل نوعا من التوازن بين القوتين على المدى المنظور هو موقف بكين من النزاع في أوكرانيا ونظرتها لروسيا باعتبارها شريكا استراتيجيا يحاول الحد من هيمنة الولايات المتحدة وحلفائها. وربما تخشى الصين في أن أي خلل في هذا التوازن قد يعيق هدفها أن تصبح “دولة اشتراكية حديثة عظيمة” بحلول الذكرى المئوية لجمهورية الصين الشعبية في عام 2049.

لعل الخاسر الأكبر على المدى القصير والبعيد هي أوكرانيا؛ فسواء احتلتها روسيا وفرضت عليها رؤاها السياسية، أو تمكنت هي من إخراج روسيا من أراضيها وانزال رؤى وأهداف الناتو على أراضيها ومن ثمّ الانضمام إلى الحلف، فإن أوكرانيا لن تعد أوكرانيا وستتحول إلى بلد محطم ومنهك في مواجهة تهديد روسي مستمر ولا يتوقع أن يكون الاندفاع لاعمارها كما هو الحال حين دعمها أثناء العمليات العسكرية في مواجهة روسيا. إن أوكرانيا محايدة هي الصيغة الأذكى للتعاطي مع تعقيدات الصراع الدولي بين القوتين العظميين بسبب وضعها الجيوسياسي الحساس، وقد كان الحياد مثمرا في حالة السويد وفنلندا رغم موقعيهما الأقل حساسية. لكنهما للأسف تخلتا عن ذلك الحياد وانضمتا إلى الناتو في لحظات ضعف وخوف وتحريض. في ذلك اليوم خرج الرئيس الأمريكي جو بايدن، كامل زينته من اجتماع ضم رئيسة وزراء السويد والرئيس الفنلندي، وقد برقت عيناه بنصر مُعلنا أن السويد وفنلندا تستوفيان “كل المعايير” للانضمام إلى حلف الناتو. فذلك النصر الجزئي قابله العالم بقلق عميق بسبب تخلي السويد وفلندا عن حيادهما طويل الأمد، إذ أسهمت تلك الخطوة الانفعالية في تكريس حالة حافة الهاوية بسبب الحرب في أوكرانيا.

اليوم ورغم مظاهر الاحتفاء الأوكراني بدحر القوات الروسية الأخير فهي لا تستطيع اخفاء خوفها وقلقها، وتوجسها، فهي واقعة بين مطرقة وسندان، عملاقين متنافسين متباغضين، وتستشعر أن الولايات المتحدة وحلف الناتو حساباتهم تقوم على مصالحهم أولا، وليس على أساس نجدة الملهوف والغريق.

تعليقات
Loading...