د. ياسر محجوب الحسين يكتب :السودان.. تحوّل ديمقراطي مُتحكّمٌ فيه. 

الخرطوم :مرايا برس

الخرطوم :مرايا برس 

أمواج ناعمة.. د. ياسر محجوب الحسين

يعيش السودان في بحر أصوات صاخبة متلاطمة يريد مصدرها أن تبدو ألحانا وطربا، بيد أن غالبية الشعب لا تسمعها إلا طَنْطَنةً ونشازاً، فاليوم تحاول أطراف العملية السياسية عبثا أن تعزف أنشودة عنوانها التحول الديمقراطي، فيما يقوم ما يُعرف بالمجتمع الدولي بالدورالكورالي أو جوقة آلات النفخ.
وبما أن التحول الديمقراطي واختيار نظام حكم البلاد شأن سوداني، إلا أن حركة دولية أممية نشطة تكالبت على الخرطوم إثر تصاعد الخلافات بين أطراف العملية السياسية الانتقالية التي تولت السلطة عقب الاطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير في ابريل 2019. والمجتمع الدولي مصطلح مضلل، فبينما يتبادر للذهن أنه يمثل إرادة دولية “حريصة” على إرساء السلام والحكم الراشد، نجده ليس إلا محصلة لإرادات دول غربية بعينها ساعية لتكريس مصالحها واستراتيجياتها التي فرضتها نتائج الحرب العالمية الثانية المنتهية في سبتمبر 1945.
والمتابع لمسار الفترة الانتقالية يستبين بوضوح دلالات توقيتات وأسباب الهجمة الدولية الهادفة إلى التحكم في الشأن السوداني تحت مزاعم دعم التحول الديمقراطي.
ومن المعلوم أن الشراكة السياسية في السودان بين المكونين العسكري والمدني، قامت على معادلة وقاعدة سُميت بالوثيقة الدستورية، فنشأت هياكل الفترة الانتقالية على أساسها. ولعل الالتزام بالوثيقة الدستورية ظل شرطا مهما لتماسك أطراف الحكم وصولا لإنجاز مهام الفترة الانتقالية بكامل استحقاقاتها.
وأهم هذه الاستحقاقات على الاطلاق هو تنظيم انتخابات حرة ونزيهة تفضي إلى برلمان يطلع ببقية الاستحقاقات. المفارقة أنه عندما انتهكت هذه الوثيقة وظل المدنيون على وجه الخصوص ينقلبون عليها ويمزقونها شر ممزق، لم يحرك المجتمع الدولي ساكنا وغض الطرف عن كل ذلك. لكن اليوم عندما دخل العسكريون والذين يمثلون الجيش السوداني طرفا في نزاع علني، هب المجتمع الدولي يعزف أنشودة التحول الديمقراطي الذي “يهدده” العسكريون.
المصالح والاستراتيجيات الغربية تعلم أن الجيش السوداني هو المؤسسة القومية الوحيدة القادرة على حفظ كيان ووحدة الدولة السودانية وهذا ما يصطدم ويتعارض مع الأهداف غير البريئة المتخفية وراء زعم “دعم” التحول الديمقراطي. والمجتمع الدولي الذي تجاهل الانقلاب على تحول ديمقراطي منجز في تونس، تجاهل خرق الوثيقة الدستورية في السودان لأن الخروقات جاءت من قبل من لا يُخشى اعتراضهم على مصالحه وخططه التي يعطلها قيام دولة سودانية ديمقراطية موحدة.
لقد نصت الوثيقة الدستورية على تشكيل المجلس التشريعي خلال ثلاثة أشهر من بداية مهام حكومة عبد الله حمدوك، لكن هذا لم يتم حتى اليوم بعد مضي نحو عامين على الحكومة. وجعل غياب المجلس التشريعي، طرفا العملية السياسية يبتكران مرة بعد الأخرى طريقة لممارسة صلاحياته، بل اخترعا سلطة ثالثة باسم مجلس الشركاء الانتقالي وهو يضم مجلسي السيادة والوزراء وشخصيات أخرى، في تعد واضح على الوثيقة الدستورية. ومضت حكومة حمدوك قدما في تعديل واصدار القوانين المختلفة والتصديق على الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية، وكل ذلك من اختصاص المجلس التشريعي، ولعل تجاهل تكوين المجلس التشريعي يمكن تفسيره بالخوف من إبطاله واعتراضه على تلك القوانين المرتبكة والتي صدرت بليل، لما فيها من عيوب وسوء نية.
كذلك فإن المكون المدني في مجلس السيادة وهم أغلبية (6 أعضاء مقابل 5 عسكريين) ظلوا جزءًا من جدال عقيم عطّل الموافقة على تشكيل مجلس القضاء العالي، واعتماد تعيين رئيس القضاء وقضاة المحكمة العليا ورئيس وأعضاء المحكمة الدستورية بعد ترشيحهم من قبل مجلس القضاء العالي، واعتماد عدد من سفراء السودان في الخارج.
ويأتي الخلاف الأخير بين المكونين بسبب مطالبة العسكريين للمدنيين بتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، إذ تستأثر 4 أحزاب فقط بالسلطة بعد أن تم ابعاد أكثر من 70 تنظيما وحزبا سياسيا كانوا يمثلون مجتمعين الحاضنة السياسية المعروفة بقوى الحرية والتغيير. ولعل هذه المطالبة جاءت كمحاولة يائسة لمعالجة خرق آخر للوثيقة الدستورية في بندها الأول من المادة (15) والتي نصت على تشكيل حكومة كفاءات غير حزبية والواقع يقول إن حكومة حمدوك اليوم حكومة حزبية كاملة الدسم ولعل حمدوك نفسه قد يحاجج عند اتهامه بالفشل بأنه لم يكن لديه سلطة في اختيار وزرائه، حيث فرض عليه أشخاص غير أكفاء لم يكن ليرغب فيهم بسبب المحاصصات الحزبية المتهافتة.
وفي مقابل مطالبات الجيش التي لم تعجب المكون المدني المستأثر بكيكة السلطة، شن الأخير هجوما على الجيش بزعم تهديده للتحول الديمقراطي وتدخلوا في شأنه مطالبين بهيكلته وتعني الهيكلة فيما تعني تفكيكه وابطال فاعليته وجاهزيته لحماية الوحدة الوطنية والأمن القومي. وهذا خرق أيضا آخر للوثيقة الدستورية التي نصت على أن مهمة (اصلاح الأجهزة العسكرية تسند للمؤسسة العسكرية وفق القانون) ولا شأن للمكون المدني بهذه المهمة.
ولعل مما زاد التوتر أن السلاح الذي يلوح به المدنيون في وجه شراكائهم العسكريين هو تحشيد الشارع لكن هذا السلاح لم يعد بتلك الفعالية إذ إن اخفاقات حكومة حمدوك لاسيما في الجانب الاقتصادي. وعلى خلفية معركة الشريكين الأخيرة، دعت أحزاب المحاصصة إلى تظاهرات لاظهار قوتها في مواجهة العسكريين، وأن قطاعا كبيرا من الشعب السوداني لا يزال يتمسك بهذه الأحزاب التي تمثل أقلية، لكن الحشد جاء مخيبا للآمال وأظهر الحجم الحقيقي لتلك الأحزاب المستأسدة.
حتى رئيس الوزراء عبر في خطاب له أمام اجتماع دولي بالأمم المتحدة عن الانتقال في السودان الخميس الماضي عن احباطه قائلا إن المرحلة الانتقالية “فوضوية ولا تذهب بأفق واضح”. أما حاكم دارفور وأحد قادة الحركات المسلحة فقد قال إن الذين يرتدون عباءة الحرية والتغيير الآن، لا يمثلون كل التحالف، واتفق مع رؤية الجيش حين قال إن الانفتاح بين مكونات التحالف هو العلاج لتحصين الفترة الانتقالية.
قبل نحو 35 عاما كانت هناك فترة انتقالية أعقبت نظام الرئيس جعفر النميري، لكن شتان ما بين تلك وهذه؛ فقد كونت حكومة تلك الفترة من كفاءات وتكنوقراط وحددت مدتها سنة واحدة واطلع المجلس العسكري برئاسة المشير عبد الرحمن سوار الذهب بمهامه وفي حدود اختصاصه بينما فعلت الحكومة المدنية ذات الشيء ولم نسمع بنزاع بين اطراف السلطة، وظل سوار الذهب يذكر شركاءه بمدة الحكومة الانتقالية حتى أوفى بعهده وسلم الأمانة.

تعليقات
Loading...