د. ياسر محجوب الحسين يكتب : زوبعة “الإعلام الجديد” وعقدة ماكلوهان.

الخرطوم :مرايا برس

مرايا برس 

أمواج ناعمة… د. ياسر محجوب الحسين. 

ربما من غير تروٍ أو عميق تفكير، تعكف كليات الإعلام والاتصال في عجالة من أمرها على تغيير مناهج التدريس مع تنامي فرقعات زوبعة ما سُمي ب”الاعلام الجديد” تأسيسا على عقدة ألبرت مارشال ماكلوهان (1911–1980) أشهر منظري الإعلام في العصر الحديث. ماكلوهان وفي غمرة انبهاره بالتلفزيون في نهاية الستينات خرج علينا بـ “النظرية التكنولوجية لوسائل الإعلام”، التي قال فيها إن الرسالة هي الوسيلة. فالوسيلة (التلفزيون) التي تنقل الرسالة الإعلامية (المحتوى الإعلامي)، تطغى أهميتها على الرسالة نفسها. واليوم تسري عدوى عقدة ماكلوهان وينشعل بعض خبراء الإعلام بالوسيلة وما اصطلح على تسميته بـ”الإعلام الجديد” مهملين في ذات الوقت الأصل، وهي الرسالة والمحتوى الإعلامي. الحقيقة التي لا مراء فيها أن الدراسة الأكاديمية النظرية للإعلام ستظل أساساً قوياً لطلاب الإعلام في مستقبلهم العملي، لا سيما فيما يتعلق بصناعة الرسالة الإعلامية، سواء كانت خبرا أو تقريرا أو فيما يتعلق بأسس الحوار والإقناع. كما أن الوسيلة ظلت عبر التاريخ تتخذ أشكالا وقوالب لإيصال الرسالة الإعلامية، فالرسالة الإعلامية أصل وثابت، بينما الوسيلة فرع ومتغير.
وفقا لنظرية ماكلوهان فإن مضمون وسائل الإعلام لا يمكن النظر إليه مستقلا عن تكنولوجية الوسائل الإعلامية نفسها، فطبيعة وسائل الإعلام التي يتصل بها الإنسان تشكل المجتمعات أكثر مما يشكلها مضمون وسائل الاتصال، ولا يبدو ذلك صحيحا بشكل مطلق؛ إذ أن المحتوى الإعلامي كائن حيّ فهو أفكار وقيم وتجارب بشرية، بينما وسائل الاتصال أيا كان تطورها التكنولوجي فهي كائن جامد أو في أحسن الأحوال عامل محايد.
ويقول ماكلوهان إن الثورة التكنولوجية نقلت وعاء تخزين البيانات من الذاكرة الإنسانية إلى وسائط إلكترونية تطورت من الحروف الهجائية، ثم في أشرطة الكاسيت، ثم في وسط رقمي قابل للقراءة آليا، يسمى أحياناً تخزين البيانات الرقمية. وهذا ما جعله يدعم زعمه ونظريته آنفة الذكر، باعتبار أن أوعية التخزين الحديثة غدت جزءاً من الإنسان وامتدادا لحواسه، بيد أن هذه الأوعية لا تعمل ذاتيا، فهي تحتاج لعقل يديرها ويستثمر في مخزونها، ولا يعتبر محتواها رسالة إعلامية بشكل مجرد ما لم تخضع لمعالجات العقل البشري ومواءمتها بالظرف المكاني والزماني وغيرها من الظروف المحيطة. فهذه الأوعية مع ما كل ما تحمله من بيانات ومعلومات، فلن تحل محل الرسالة الإعلامية المتكاملة، وهي في أحسن الأحوال وسيلة نقل وليست رسالة في حد ذاتها.
إن الرسالة الإعلامية فكرة يصوغها المرسل في عقله في شكل يمكن إدراكه من المرسل إليه. وماكلوهان لم يكن محقاً حين قلّل من قدر الرأي الذي يقول إن وسائل الإعلام أدوات يستطيع الإنسان أن يستخدمها في الخير أو الشر. ومع انبهار ماكلوهان الزائد بالوسيلة، فإن الرجل كان متأثرا كذلك بالهيام في سماوات الخيال الأدبي، فقد اختص الرجل بشكل أساسي في النقد الأدبي، وكانت إحدى كتاباته الأولى عن (المنطلقات الشعرية والبلاغية) في العام 1943، وهي مفتاح تكوينه الفكري السابق في النقد الأدبي.
لا شك أن ثورة المعلومات التي يعيشها العالم في الوقت الراهن أحد أهم مراحل التطور التاريخي الكبرى، لكن من الخطأ تقسيم الإعلام تقسيما حتميا إلى إعلام تقليدي؛ ويقصد به الصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون. وإعلام جديد؛ يقصد به اندلاق المعلومات عبر شبكات التواصل الإعلامي عبر الانترنت والهواتف الذكية. فذلك يقودنا مكرهين للوقوع في نظرية ماكلوهان، التي هي إسهام علمي مُقدر في وقته وله ما كسب وعليه ما اكتسب. فهذه الوسائل بنوعيها لا تعدو قوالب لنقل المحتوى الإعلامي وتكتسب فاعليتها وأهميتها من قيمة الرسالة الإعلامية نفسها وقدرتها غلى إحداث التغيير الإيجابي في المجتمع.
وإن كان من مرادفات مصطلحات الإعلام الجديد: الإعلام الرقمي، الإعلام التفاعلي، إعلام المعلومات، إعلام الوسائط المتعددة، الإعلام الشبكي الحي على خطوط الاتصال، الإعلام السيبروني؛ فإن ما سُمي بالإعلام التقليدي باعتباره مؤسسات متكاملة يحوي كل هذه الأشكال، فالقنوات الفضائية على سبيل المثال تضم مواقع إلكترونية عالية المهنية وتواصلاً تفاعلياً آنياً بجمهور المستقبلين، وكذلك الحال في كثير من الصحف. فنحن حقيقة أمام مؤسسات إعلامية تسمى ظلماً تقليدية، ربما للإشارة إلى تخلفها عن المواكبة التكنولوجية، لكنها تضم المحطات التلفزيونية التفاعلية، والكابل الرقمي، والصحافة الإلكترونية، ومنتديات الحوار، والمدونات، والمواقع الشخصية والمؤسساتية والتجارية، ومواقع الشبكات الاجتماعية، ومقاطع الفيديو، والإذاعات الرقمية، وشبكات المجتمع الافتراضية، والمجموعات البريدية، وغيرها.
إن خبراء الاتصال والإعلام مطالبون اليوم بشكل مُلحّ بالبحث والتطوير في فلسفة الاتصال ومفاهيم الإعلام؛ فالاتصال سمة ملازمة للمجتمعات البشرية منذ الأزل، باعتباره جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية للإنسان الذي يوصف بأنه كائن اتصالي؛ ولا تقوم للمجتمع الإنساني قائمة دون نظام للاتصال الذي اعتُبر شرطا من شروط بقاء الكائن البشري. وتاريخ البشرية من عصور نقوش الأحجار إلى بث الأقمار والثورة الرقمية، يمكن رصده متوازيا مع تطور وسائل الاتصال التي تربط بين الأفراد والجماعات. والاتصال يستهدف العمومية أو الذيوع أو الانتشار أو الشيوع. يقول الله سبحانه وتعالى في سورة القصص الآية 51: “وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ”. أي أتبعنا بعضهم بعضا فاتصل عندهم القول، يعني: القرآن.. أتممناه وبيناه وفصلناه. و(وصلنا) أصلها من وصل الحبال بعضها بعضا. والاتصال والإعلام ليسا مصطلحين مترادفين ولا يرمزان بالتالي لمعنى واحد ولا يحملان نفس الدلالة أو الإشارة إلى دائرة معينة.
إن مفهوم الاتصال هو الأعم والأشمل، بينما الإعلام هو أحد وظائفه وأنشطته فهو جزء من كل. ومن الممكن القول بأن الإعلام بالضرورة اتصال، وليس الاتصال بالضرورة إعلام. علينا أن نبحث وندرس في كيفية إسهام الإعلام الإيجابي في أزماتنا الاقتصادية والسياسية والأخلاقية، وأن يكون قائداً وليس تابعاً أو مسبحاً باسم القوي، سواء كان ذلك مالا مستبدا أو سلطة غاشمة.

تعليقات
Loading...