د. ياسر محجوب الحسين يكتب : سراب التعويل على مجلس الأمن.

الخرطوم :مرايا برس

ما بين حياة أو موت مقابل تنمية ورفاهية، تصرخ الخرطوم والقاهرة وتستجيران بمجلس الأمن الدولي مع بدء الملء الثاني لسد النهضة؛ مصر تقول إن السد الأثيوبي يهدد حياة ملايين المصريين وأن أمنها القومي يتهدده خطر ماحق، والسودان يحذر من مواسم جفاف وفيضانات تقضي على الأخضر واليابس. في مقابل ذلك ترى أثيوبيا أن السد، أساسي لتنميتها الاقتصادية وتزويد شعبها بالكهرباء. بيد أن رئيس مجلس الأمن الدوري استبق نقاشا للقضية معلنا أنه لن يكون بمقدوره حل الخلاف بين مصر والسودان وأثيوبيا حول السد، باعتبار ذلك خارج نطاق عمله. بالرغم من اختصاصات مجلس الأمن الدولي المحافظة على السلام والأمن الدوليين وفقا لمبادئ الأمم المتحدة ومقاصدها التحقيق في أي نزاع أو حالة قد تفضي إلى خلاف دولي. أو على أقل تقدير تقديم توصيات بشأن تسوية المنازعات وشروط التسوية. ‬فما الذي يمكن أن يهدد السلام والأمن في القرن الإفريقي أكثر من إعلان القاهرة أنها تواجه خطرا وجوديا بسبب السد وأنها ستضطر لصون حقها في البقاء، حال أصرت أثيوبيا على موقفها الحالي؟.
إزاء تصعيد القضية لمجلس الأمن للمرة الثانية، فإن السودان ومصر بشكل خاص تبدو أمام ثلاثة خيارات: إما أن يصدر المجلس قرارا بوقف الملء لحين توقيع اتفاق قانوني ملزم بين الدول الثلاث كما تطالب مصر والسودان، أو توجيه ضربة عسكرية توقف التعبئة، أو القبول بالأمر الواقع واستمرار أديس أبابا في سياسة التعويل على الوقت وفرض وجهة نظرها. لكن لا يبدو من السهل القيام بعمل عسكري الآن ضد أثيوبيا؛ فأي هجوم على السد يعني جلب عداء كل أفريقيا وربما العالم كله. فضلا عن أن المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة تبيح للدول اللجوء إلى استخدام القوة المسلحة بعيداً عن السلطة المركزية الدولية (مجلس الأمن الدولي) التي تحتكر استخدام القوة المسلحة في المجتمع الدولي في حالة الدفاع الشرعي، لا تنطبق على حالة السد رغم اعتبار القاهرة له مهددا لأمنها القومي؛ إذ هناك شروط تحدد مشروعية العمل العسكري وفقا للمادة 51، إذ ينبغي أن يكون هناك عدوان مسلح، قائم بالفعل، وعلى قدر من الجسامة والخطورة، وهذا ما لا يبدو في حالة أثيوبيا. فلا يمكن وفقا لتفسير تلك المادة الاستناد إلى استخدام حق الدفاع الشرعي في حالات العدوان السياسي أو الاقتصادي أو تهديد المصالح الاقتصادية للدولة.
وفي هذه الحالة وهي عدم وقوع العدوان المسلح على مصر والسودان فإنه يتعين إبلاغ مجلس الأمن الدولي بما حدث وتم أو – بما سيحدث – ويتعين على مجلس الأمن في مثل هذه الحالة اتخاذ الإجراءات والتدابير المناسبة باعتبار أنه صاحب الاختصاص الأصيل لمواجهة هذه الحالات. وهذا ما قامت به الخرطوم والقاهرة إلا أن المجلس هرب من مسؤولياته. وهذا التواطؤ يضع مصر والسودان في مربع القبول بالأمر الواقع خاصة وأن المجلس أحال الخميس للمرة الثانية الملف إلى الاتحاد الإفريقي وهو ما تطالب به أثيوبيا وترفض أي وساطة أخرى، سواء من جامعة الدول العربية أو حتى أي وساطة دولية أخرى. وهذا ما يدعم قول بعض المراقبين بأن الاتحاد الإفريقي يميل لوجهة النظر الأثيوبية.
وبما أن مجلس الأمن سبق له أن أحال القضية للاتحاد الإفريقي دون أن يجدي ذلك فتيلا طوال سنة كاملة، فإن ذلك يدخل في إطار التسويف والمماطلة وهو ما يمكِّن أديس بالفعل من تمرير سياسة شراء الوقت وهذا ما يحدث منذ أن كان السد فكرة قبل أكثر من عقد من الزمان. لقد كان في مقدور مجلس الأمن توسيع نطاق المفاوضات، ووضعها تحت إشراف أممي مع الاتحاد الأفريقي وحضور مراقبين على سبيل المثال، من روسيا والولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يمنع أي من أطراف الأزمة من اتخاذ إجراء أحادي.
المدهش فعلا أن المجلس ناقض في بيانه الأخير قول رئيس المجلس قبل مداولات أمس الأول الخميس بأن المجلس غير مختص بالقضية والإيحاء بأن القضية فنية ولا علاقة لها باختصاصات المجلس المتعلقة بالحفاظ على الأمن والسلم الدوليين؛ فقد زيل بيانه الداعي لتحويل الملف للاتحاد الإفريقي، بأنه يسعى إلى تخفيف التصعيد الذي يؤثر مباشرة على المنطقة والقارة الأفريقية. وتجاهل مجلس الأمن كذلك مشروع قرار قدمته تونس دعا إلى الضغط من أجل إبرام اتفاق ملزم بين الثلاث بشأن آلية تشغيل السد. وجاء التجاهل على هوى أديس أبابا التي اعتبرت أن مشروع القرار من شأنه أن “يُفسد فعليا” عملية الوساطة التي يقودها الاتحاد الإفريقي بين الدول الثلاث، وإن أثيوبيا تعمل على التأكد من عدم اعتماده.
ومن مفارقات مجلس الأمن أنه في 2010 أرسل وفدا للسودان لغرض معلن بدا مستغربا ومثيرا للسخرية؛ رئيس الوفد البريطاني قال: “هدف زيارتنا هو تأكيد تأييدنا لعملية السلام ورغبتنا في المزيد من الاستقرار والازدهار للسودان”. فقط مجرد تأييد ورغبة؟ لماذا تجشم وفد المجلس الصعاب وجاء إلى السودان قاطعا الفيافي ليقول هذا الكلام؟. ففي حين اعتبر المجلس قضية داخلية مهددا للأمن والسلم الدوليين، لا يرى أن أزمة السد والتي تصطرع فيها 3 دول أمرا يستدعي تدخله؟!.
إن الفشل الكبير الذي يطوق مجلس الأمن وكثير من أذرع الأمم المتحدة ظهر جليا في العقود الأخيرة حين أكدت معظم الدول في أكثر من مناسبة، أن الأمم المتحدة بشكل عام ومجلس الأمن الدولي تحديداً يمر بواحدة من أخطر الأزمات التي واجهته منذ إنشائه بعد إفراغه من مضمونه وانتزعت صلاحياته ومهامه الأصلية، وهي المحافظة على الأمن والسلام العالمي خصوصاً في ظل هيمنة دول بعينها على القرار العالمي. فهذا الواقع الأليم نتج عنه مطالبة أغلبية أعضاء المجتمع الدولي بضرورة إصلاح مجلس الأمن.

تعليقات
Loading...