رحاب محمد عثمان تكتب:في الأسفار والأسمار.

افياء..

..

سألتني المذيعة التلفزيونية إنتصار مصطفى في برنامج إيقاع الظهيرة والمساء: من يرافق الصحفية في أسفارها؟
قلت: قلمها وثقافتها ووعيها !
قبل عامين كان مقرراً سفري مع وفد الاتحاد الوطني للشباب السوداني للمشاركة في ورشة عمل عن ثقافة السلام بكادوقلي ، بعد حصولي على موافقة الصحيفة ، فوجئت برفض أسرتي ، التقاني رئيس التحرير وقتها النجيب قمر الدين ، وسألني عن تخلفي من السفر ، فأجبته: بحياتي ثلاث حكومات :زوجي وابنتي وعائلتي !، فقال ناصحاً: هذا خطؤك ، كان عليك أن تشكلي حكومة ائتلافية بين الأطراف الثلاثة!.
حدثني أحد الزملاء أنه في وفد إعلامي لإحدى الولايات النائية ،صحبتهم صحفية شابة، فسقط في أيديهم : أين تقضي ليلتها وحاجتها؟، وأين تتناول طعامها وشرابها؟، وسرد لي الرهق والمعاناة الذي وجده الطرفان: الوفد الإعلامي والصحفية،رغم حرصهم على راحتها واستقرارها.
زميلاتي الصحفيات يشتكين لطوب الأرض من قلة الفرص الممنوحة لسفرهن في تغطيات داخلية أو خارجية ، وتعطى الأولوية والأفضلية للزملاء الرجال .
أحياناً أجد العذر لإدارات الصحف ، ولكن ما أعلمه يقيناً هو إصرار الكثير من الصحفيات على السفر ، وتنجح مساعي بعضهن بمبادرات شخصية أو في صحبة إحدى التنظيمات النسائية.
عندما أعلنت إحدى الصحف الخليجية عن حاجتها لمحررات ومحررين ، تقدم لها المئات من الزملاء والزميلات ، لم أجد في نفسي رغبة أو حماساً لتقديم أوراقي وشهاداتي ، رغم استيفائي للشروط المطلوبة ، عندما عرف أهلي بهذه الوظائف أنحوا عليَّ باللائمة :لماذا  لم أجرب حظي على الأقل في التقديم لهذه الوظائف؟!، حاولت إقناعهم فلم أفلح، ابنة عمي قالت:أدروب ولوف، وحدثتهم على لساني أنني شديدة الإرتباط بأسرتي ،ومرتبطة بوطني ، ولاشئ يدعوني للتخلي عن عملي وصحيفتي. !
تمل وتضيق بما حولها ومن حولها ، تفكر في لحظة يأس أن تقدم أوراقها للعمل بإحدى دول المهجر ،لكنها سرعان ماتمحو الفكرة من رأسها ، لتبدأ التفكير من جديد بأملٍ وحبٍ وتفاؤل. إنها لا تستطيع أن تفارق هذا المكان بكل متناقضاته ! تمتلك العديد من الشهادات والخبرات العلمية والعملية ، ومؤهلة تماماً أن تشغل منصباً مرموقاً؛  واتتها العديد من الفرص والعروض المغرية ، رفضتها جميعاً بإصرار.
قالت محدثتي: لا أتصور نفسي زوجة لمغترب ،يبعدني عن أهلي وأسرتي ووطني.
ابتعثتها المؤسسة التي تعمل بها إلى دولة مجاورة ، وهي الفتاة الصغيرة الغريرة التي لم تفارق خدرها ، ولم تغادر قريتها الصغيرة إلى المدينة الكبيرة ، كانت المنحة مجزية ومغرية ، وكفلت لها المؤسسة كل أسباب الراحة والرفاهية ، ماكان لها أن تركل هذا النعيم .. واجهت معارضة الأهل وسافرت.
والدتها قالت لي:عااااافية منها ، وراضية عليها، لكني أعلم أنها كانت ستكون أكثر اطمئنانا وسعادة إن سافرت في رفقة زوجها.
الآن أدرك حكمة التشريع الإلهي في تحريم سفر المرأة بلا محرم، وأدرك الآن معنى قول الشاعر الشعبي:( عز الحريم وليان).
إن كان بعض الناس يرى في السفر فوائده وإيجابياته التي عدها بعضهم خمساً ، وقال آخرون : بل أدنى للخمسين، لكني لا أرى في السفر إلا وجهه الآخر الكالح،  لا أراه إلا اغتراباً وابتعاداً ، وانتظاراً موجعاً ، ومفجعاً ، وتفتتاً للأكباد صبابةً وشوقاً ، وانفلاتاً من حال الحضور إلى الغياب؛ كثيراً ماكنت أقف بالـتأمل والتدبر في قوله تعالى : (ذرني ومن خلقت وحيداً،وجعلت له مالاً ممدوداً ، وبنين شهوداً)، أيُّ نِعمٍ ،وأيُّ آلاءً أفاضها الله على هذا المشرك :الوليد بن المغيرة، تكاثرٌ في الأموال والأولاد ، وبنين شهوداً :هم  دائماً  معه، تحت سمعه وبصره ، لا يفارقونه سفراً ولا حضراً.
وأقرأ لأحد الشعراء:
مسافرون دونما سفر
في هدأة الضياء والعبير والقمر،
مسافرون مسافرون
وكلنا في هذه البسيطة مسافرون ،في مقامات مختلفة ومتفاوتة ولابد من الوصول يوماً، وأشير لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ناصحاً: ( كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل).
لكني أمارس سفراً يومياً مضنياً في رحلة الكتابة ، حيث يرتحل الوجدان ، ويعصاني الحرف ، وتنطلق الخاطرة، وترهقني مشاوير التفكير.

تعليقات
Loading...