سرقني البنطال.. قصة قصيرة..

محمد مصطفى الزاكي.

تفاصيل كثيرة سجلت في الذاكرة، رائعة بعضها والبعض حزينة اجتمعت لتشكل لوحة حياتي ، إلا أن تفاصيل الطفولة كانت الأجمل، حينما كنت محاطا بالدفء والحنان والبراءة والصفاء… كنت عندما أضحك أطلق القهقهات صادقة من الأعماق، كنت لا أعرف الإنشغال سوى هم الحصول على الطعام!،
صدقوني كانت طموحاتي تحوم في حد الحصول على رغيفة مغموسة في ماء سكر!،..كنا نأكل الرغيف مرة أو مرتين في العام! عندما يصطحبونا الأهالي لسوق المدينة يشتروا لنا اللبس..(عراق ونعل، أو نعل وسروال) لكن نادرا ما نحظى بالثلاثة معا!! كان أول يوم ألبس فيه بنطالا وقميص ونعل تغيرت حياتي وتبدلت ظروفها اختلط علي حابلها بنابلها وصرت مذاك اليوم أتضايق من لبس البنطال.
صار البنطال عندي متهم في جريمة إغتيال براءتي حينما أخذني عنوة من البادية للبندر وسرق في الطريق أمتعتي التي كنت أخبيء فيها البراءة والحب والجرأة والحرية وصفاء الذهن والضمير؛.. فقدتها في رحلتي تلك بين البادية والبندر وفقدت معها هويتي وصرت أنا لست بأنا!!… ذهب أنا مع أمتعتي وتركت ورائه أنا مزيف!! الغريب أن سارقي معروف وهو البنطال ولكن المسروق ما عاد موجودا ولا أنا! فكيف لقاض أن ينصف شاكيا ودليل الإدانة مفقود وكذلك المجني عليه.
البنطال متهم وبريء في نفس الوقت لعدم كفاية الأدلة لكني سأحاكمه رغم أنف الوقائع.. سأشكل محكمة إفتراضية أكون أنا المدعي فيها، والقاضي والجلاد ولكن! من أنا؟؟ هل المسروق من سيحاكم البنطال أم أنا المزيف؟؟لا لا لا لن يستقيم الأمر فإنا لست أنا.
عموما سأطلق سراح ذلك البنطال يمرح حرا رغم أنفي وأسلم أمري للزمان عله يستدرك لاحقا ويفهم أن العدالة نسبية لا يشترط في تحقيقها أدلة مشروطة وإنه قد يظهر بريء اليوم مجرم في الغد حينما تتبدل الظروف وأوراق القضية.
كنا في البادية نتسامر تحت القمر نستمتع لنعيق الضفادع حولنا وصفارات الحشرات وأصوات طيور الليل عندما تمتزج معا في سمفونية لم تخطر على بال الموسيقار العالمي(ياني).
كنا لا نعرف المنطق ولا تجول في عقولنا أفكار وحشية ، كنا لا نخشى سماع الذئاب وهي تعوي على مسافة منا، بل كنا نتعمد التسلل إليها لنحظى بنظرة فاحصة نتأمل تفاصيل أجسادها لنحكي تلك المغامرات لأطفال القرية القريبة التي كنا نتبع فتيات الفريق إليها عندما يحملن لهم الحليب واللبن الرائب والزبدة تستبدلنها بالدخن والفول والويكة، وإحيانا نظهر بطولاتنا تلك أمامهم حينما نلتقيهم في الوادي نسبح معا في المياه الجارية أو البرك الراكدة نغني ونغوص في الطين ونصنع منه الأشياء ونحكي ونرقص ونتشاجر أحيانا.
فجأة يظهر البنطال محمولا على مقعد دراجة كان يقودها رجل قالوا أنه أبي! ،فأنا لم أسمع عنه إلا القليل لم يتجاوز حدود إسمه وكونه يعمل في المدينة البعيدة.
هنا ينشأ جدلاً بين البنطال والدراجة كل يقذف تهمة السرقة بعيدا ويصيغ لنفسه دفوعات البراءة فتغيب الحقيقة وسط زحمة المدينة… والمدينة هذه هي مدانة كما البنطال والدراجة، فقد أخذوني من طبيعتي وشراني للمجهول، وقد دبرا مكيدتهما ليلاً وسط الظلام حينما غاب القمر ، هما يخشيان القمر! ،يخشيان فيه الصدق والبراءة والوفاء فهو لا يخون سماره أبدا.
كان القمر يغيب عنا أياما يذهب فيها هناك بعيدا خلف تلك الجبال السوداء وقد حكت لي جدتي عنها يوماً وقالت أنها تخفي في داخل كهوفها (عمالقة الجنون) آكلي لحوم البشر ،وذكرت أنهم يتسللون أحيانا إلى الغابة القريبة ليصطادوا الأطفال الذين يخالفون نصائح أمهاتهم ويلعبون في مياه البرك.
ذات يوم سألت عنهم القمر عن كيف تبدو أشكالهم؟ولماذ يأكلون الناس؟ أليس لديهم طحينا كافيا ليصنعوا منه العصيدة؟؛ إلا أن القمر لم يجيبني وتبسم ثم غادرني مسرعاً كأنه على موعد مع طفل آخر خلف تلك الغاب.. سأنتظر رده في ليال قادمات حتماً سيعود ليحكي لي عن العمالقة وطيور البجع التي سافرت قبل حلول الصيف.
الجميع يهرب من الصيف حتى الجراد يرحل مع آخر قطرة تسقط من السماء فتأخذ الطيور زادها من حشرات البرك المنحسرة وتغادر هي الأخرى، وكذلك نرحل نحن خلف الماشية إلى بطون الوديان وبين الجبال ، فالصيف قاس وحار وقبيح تنحسر فيه المياه والحليب… وتتجرد الأرض من ثوبها الأخضر الزاهي لتقف عارية بلا خجل تاركة عورتها مكشوفة ولا تبالي.
سرقتني الدراجة بعد أن تآمرت مع البنطال وحملاني إلى المدينة القريبة حيث كانت كومة من الحديد تقف على دوائر سوداء سمعتهم يقولون عليها (السيارة) التي تنقل الناس والبضائع بين المدن.. لم أحظى بلمسها في حياتي فقد كنت أخشى زئيرها وأكره رائحة كريهة تخرج من مؤخرتها، كنت أراقبها من بعيد بحذر وهي تتدحرج مسرعة في الطريق عندما كنا نزور تلك المدينة يوم سوقها الذي يأتونه الناس من القرى المجاورة والفرقان؛ عكس رفيقي جبريل فقد كان أكثر جرأة مني حينما كان يركض خلفها ويحاكي زئيرها بل كان يصنع تماثيلها من الطين والقصب الجاف، وكثيرا ما كنا نتشاجر معا بسبب محاكاته لكل ما يراه من صنع المدينة وأنا أهوى محاكاة الطبيعة.
حتى أنه في إحدى الأيام كشف لي سرا وقحا حينما أقر بكل جرأة عن نيته الزواج من فاتنات المدينة لأنه يحلم بفتاة ناعمة رقيقة تربت على دلال المدائن.. لم تتشقق أطرافها بفعل قساوة الطبيعة ولاتعرف جني الحطب ولا الرعي، جبريل كان يزدري قوة ركض فتيات البادية كما الرجال إلا أنهن رغم ذلك لا يعرفن التزين بالمساحيق ولا يزورن الجمال بلبس الأقنعة.
جبريل صرح بأنه ينتظر بلوغ سن الشباب ليعلن تمرده الصريح على البادية حينها سيبيع بقرته التي أهداها له أبيه يوم ميلاه الأول ليشتري من عائدها حانوتا في سوق المدينة وبيتا وزوجة! لا تقام عندنا في البادية أعياد الميلاد، سوى تلك التي تحدث مرة يوم ميلادك الأول عندما يسموك فلانا ويهدونك (عجلة) لتنشآ معا وترتبط حياتك بتلك البقرة وتتوقف حدود طموحك عند تحويش أكبر قدر من البقر دون غيره وتظل تركض خلف القطيع حتى الممات وهو الحلم الوحيد المسموح به عندنا في البادية.
لكن جبريل خالف قانون الطبيعة وهو ما أثار غضبي للحد الذي تمنيت أن يصطاده عملاقا أثناء تجواله بين أشجار الغابة حتى لا يأتي يوما نسمع أنه أصبح حانوتيا وعريسا من المدينة.
الدراجة والبنطال يبدو أنهما خلطا بيننا حين إخذاني مجبرا إلى المدينة وتركا جبريل الراغب في البادية.. صارت بنا كومة الحديد تطلق الزئير والرائحة التي أكرهها بشدة تركل خلفها السهول والجبال والوديان والغابات وقطعان المواشي وأسراب الطيور ، تبطيء حيناً وتعود لتسرع أحيانا كثيرة حتى بلغنا مكانا توقفت ووقف أزيز محركها واجتمع حولها أناس يتحدثون كلاما غير مألوف، فصعد إلينا رجال أشار أحدهم بيده وفهمت أنها النهاية لرحلة العذاب تلك بين البادية والبندر وقد كانت أطول سجن أقضيه على ظهر كومة الحديد المشؤومة مكبلا بقيود إفتراضية قاسية ما كنت أتوقعها يوماً.تفحصني أحدهم وبدى عليه التأثر وساعدني في النزول فقد لاحظ أني عاجز عن الوقوف بعد أن استهلكت طاقتي في مصارعة هزات كومة الحديد المتواصلة حتى أفرغت معدتي من آخر لقمة ابتلعتها في البادية قبيل لحظات من الإختطاف.
وضعوني بجانب الأمتعة ويبدو أنهم حسبوني كذلك! فالشبه بيننا ماثل في ذلك الإستسلام الصامت حد البلاهة. حاولت كسر حاجز الصمت بالسؤال عن حال جبريل بعد أن عرف خبر مفارقتي للبادية وعن باقي أطفال الفريق والأبقار وطيور الرهو وكلاب العم حسين التي كانت نقارة الإنذار المبكر توقظ الأهالي بإطلاق النباحات المفزعة عندما تتحسس حركات اللصوص والذئاب المريبة نحو ماشية الفريق ليلا فتجبرها على التراجع والبحث عن فرائس أقل مخاطرة.
لم تثير تساؤلاتي رفاق رحلتي في البندر فهم لا يألفون الغرباء بهذه البساطة! ، بل يستنكرون التمرد على النظام حتى أن الذين إلتفتوا إلي صدفة زجرتني نظراتهم التي كانت تطالبني بالسكوت، لكني لازلت مصرا على تمردي وقد قررت إنتزاع الإجابات وتفسيرات واقعي الجديد فلجأت للإشارات والإيماءات التي تعلمتها خلال صحبتي راعي حاج شريف الأخرس الذي كنا نلاحقه عند الحفير حينما كان ينزل ليسقي الأبقار والأغنام قبل أن يعيدها للمرعى عند الظهيرة، كنا نتابع ثرثراته الصامتة مع رفاقه أبو طايوق وحسن فروجة وكان يستخدم حركات الأصابع وإيماءات الرأس والهمهمات بديلاً لنطق الكلام… يحكي مغامراته مع مزارعي المانجو وقصب السكر والبطيخ الذين كانوا يزجرون الرعاة وقتما اقتربوا لزرائبهم ويبررون ذلك بأنهم يتعمدون إدخال ماشيتهم في المزارع فتخرب المحصول ويذهب المجهود؛ لكن الأخرس تمكن من كسر حاجز التواصل وجمع بين الرعاة والمزارعين في مصالحة أبدية مباركة من الطبيعة وصاروا يتبادلون المحبة والمانجو والحليب.
، ولكن يبدو أن الأخرس أخفى عني مفتاحاً من مفاتيح التفاوض لأن محاولاتي تلك لم تفلح مع رفاقي في البندر، فإستسلمت لقوانين الواقع الجديد وخضعت للأوامر الصارمة التي كان يصدرها صاحب البنطال والدراجة، الذي أشار إلي بالجلوس إلى جانب الأمتعة ففعلت، ثم عاد ليمسك يدي بقوة ويجرني إلى وسط الحشد المزدحم وهكذا سرنا نشق الطريق وسط الزحام فكانت خطوات هرولته سريعة وقاسية لا تناسب طاقتي التي نفدت من هول الإنتقال المفاجيء وصدمة الخوض في المجهول بين يدي دليل متعجرف هكذا بدت لي الحياة في البندر متعبة حد التقيوء وقاسية مطوقة بقيود النظام الصارم.
قررت ألا أستكين للأوجاع ولا أستجيب للصدمات وأن أكتم الأنين والصراخ والغبن وأتقبل الأشياء كما هي واستقبل الواقع بالبرود الذي هجرت به باديتي والجبال والسهول وحتى جدتي وجبريل ورفاق السمر دون وداع فسوف إستغني عن وجهي وكلامي والفؤاد والمشاعر وكل تفاصيلي القديمة وأرميها كما العراقي والسروال وألبس شخصاً جديداً كما القميص والنعل والبنطال.

تعليقات
Loading...