سناء حمد تكتب:متلازمة الأذكياء والثقوب السوداء.

الخرطوم :مرايا برس

دراسة السلوك الانساني ومحاولة تفسير وفهم مواقف وقرارات وافعال البشر ، عملية بقدر ما هي مهمة فإنها مفيدة ، ومن ذلك محاولة فهم سبب فشل الأذكياء في الوصول لنجاحات متكاملة بينما ينجح من هم اقل منهم في تحقيق انجازات ؟! يقول ” ت. برادبري” المتخصص في سلوك الاذكياء ، من الجيد أن يكون الإنسان ذكياً، فالأذكياء يجنون أموالاً أكثر ويجمعون ثروة أكبر و أعمارهم أطول لكن من الجانب الآخر لل فإن لهم سمعة مفادها أنهم يرتكبون أخطاء غبية، خصوصاً في المواقف التي تتطلب ذكاء ، أثبتت عدد من الدراسات السلوكية أن التفكير العقلاني والذكاء لا يميلان إلى السير معا في اتجاه واحد. فالاذكياء أكثر عرضةً لارتكاب الأخطاء الغبية بسبب عدم قدرتهم على استخدام المنطق بشكل فعال لأنهم يُعقِّدون الإمور أو يستهترون بالتفاصيل وتغيب عنهم أحياناً البديهيات !! ولإيقاعهم السريع فإنهم في مرحلةٍ ما من عملهم – خاصة اذا استمروا فيه لفترةٍ طويلة – يتضجرون من عملية التخطيط التفصيلي ويتحولون الى التنفيذ المتعجل ، وهو منهج عمل يقود غالباً الى نتائج كارثية .
إن الاهتمام بدارسة شخصياتهم ومحاولة العثور على نمط محدد لهم أو متابعة صعودهم و معرفة اسباب هبوطهم، وملاحظة التفاصيل المتعلقة بهم ومحاولة تحليل سلوكهم وفهم ما ورائيات الظاهر ،، عملية جدُ مفيدة لفهم وتفسير العديد من القضايا والموضوعات ، وقد اتاحت لي ظروف مختلفة التعامل مع طيف واسع ممن يصنّفون ضمن هذه المجموعة داخل وخارج البلاد ، رجالاً ونساءً ، سياسيون ، مثقفون واكاديميون، دبلوماسيون ،الخ ،كان العمل معهم او حولهم ، او القرب من دوائر حركتهم او معارفهم ، محفزا للتفكير. ، لاحظت مثل غيري وجود ما اسمّيه ” ثقوب سوداء” ويسميها البعض “مناطق عمياء” في نمط تفكيرهم وتقديراتهم للأمور وهو أمرٌ عزاه العلماء إلى الثقة الزائدة لديهم في قدراتهم الذهنية، إذ يعتبرون أنفسهم دوماً على صواب، و لديهم اجابة سريعة لكل سؤال ولا يتريثون في التفكير، رغم ان الدراسات الحديثة أثبتت إن الأشخاص الأذكياء قد يواجهون صعوبات في التركيز، وفي تحديد أولويات المهام والأفكار أثناء العمل، وهذا يعني أنهم يمكن أن يرتبكوا و يسيئوا التقدير عند تكليفهم بعدة مهام في نفس الوقت وهو ما قد يفسر بعض الاخطاء غير المبررة والكارثية التي يرتكبونها ، كما تزيد كثرة الاشادة بهم وبذكائهم ومهاراتهم من شعورهم بالصواب و بعدم الحاجة للمساعدة او سماع الرأي الآخر ، حتى وإن تظاهروا انهم مهتمين !! ،وهم بحاجة لهذا الشعور الدائم بالصوابيّة او دعنا نسميه الشعور بالمعصوميّة.. للاستمرار ! ، كما وجد ” ستانوفيتش” أن لديهم قدرة أقل على رؤية عيوبهم الخاصة، حتى عندما تراهم قادرين تماماً على انتقاد نواقص الآخرين ” !!
صحيح إن كل البشر يجدون صعوبة في تقبّل انهم على خطأ، ولكن هذا الأمر أكثر صعوبة على الاذكياء الذين يشعرون بالاستهداف الشخصي اذا تم انتقادهم ويعدّونها مؤامرة عليهم ، ولذلك ينهمكون في حروبٍ جانبية تزيد من انشغالهم عن تحدياتهم الحقيقية وتسوقهم بعيداً عن المهام أو الصواب المطلوب منهم القيام به … وهي تُحدث تشققات خطرة في شخصياتهم وقدراتهم ، وربما لهذا السبب نجدهم يتعرضون للتضليل بشكل خطير وأحمق، فيتسببون في الاضرار بأنفسهم او بمؤسساتهم بصورة يصعب إصلاحها في الغالب، واللافت للنظر كما يقول برادبري،” إن هذا التوجه لا يقلل فقط من تطورهم، ويؤثر سلباً على أدائهم، لكنه يؤدي أيضاً إلى ظهور علاقات مسمومة على الصعيدين الشخصي والمهني.” فمعظم الاذكياء هم شخصيات حققت الكثير من الإنجازات بغاية السهولة، ولذلك يرهقون من حولهم لانهم يحمِّلونهم فوق طاقاتهم اذ يحاكمونهم بمعاييرهم هم وظرفهم هم …هذا التفاوت بين الاذكياء ومن حولهم يعمل في اتجاهين ، من جهة الاذكياء يزيد ثقتهم المتجاوزة في انفسهم وقدراتهم ويفاقم من استخفافهم بمن حولهم فيخلقون دائرة ضيقة من التابعين وليس المعاونين !! ومن جهة الآخرين فانهم يستسلمون لطغيان شخصية الاذكياء فيصنعون منهم طغاة ودكتاتوريين! او يضيقون بهم ذرعاً ويحاربونهم ، وخلال هذه العلاقة المضطربة تحدث ثقوب كبيرة تبتلع الطرفين او تُضر بمجال عملهم او مشروعهم …
لقد علمتني تجربتي في الحياة انه في حالة عدم وجود المعلومة الصحيحة والناصح الامين يتساوى الاذكياء والاغبياء فكلاهما يسير في الظلام !! ووجدت انه كثيراً ما ينجح الاقل ذكاءً والاقل ثقة في النفس والأكثر ميلا للعمل الجماعي ، بينما ينكسرُ الاذكياء !! وانت تقرأ كلماتي هذه بلا شك تذكرت أن بعضهم مر بك هنا او هناك !!!
ما حدث لتجربة الاسلاميين في السودان ليس بعيداً عن اعلاه ، فهم بشر يجري عليهم ما يجري على غيرهم ، وقد قدموا في الغالب الاكثر ذكاءً بينهم للدولة ، ولذلك من المهم عند تقييم تجربتهم في الحكم الانتباه الى ” متلازمة الأذكياء ” واثرهم على مسيرتها ومسارها ، فبعض الراهن هو نتاج عملية تفاعل اخطاء الاذكياء و خضوع من حولهم لهم او تململهم منهم او صراعهم !! وهو نتاج قابلية الاذكياء لصناعة الاعداء ، فكثيرا ما يشعر البعضُ بالاستياء منهم ، فطرح الأسئلة الصعبة او المستفزة لا يجعلهم محبوبين او اصدقاء ، وكذلك هي نتاج صنعهم بوعيٍّ او دونه لعوالم مستفيدة منهم ومعتمدة عليهم تدور في فلكهم ولاءاتٍ ومقدرات ،
إنهمكت في معارك جانبية وغفلت عن تحديات البناء والتأسيس لذاتٍ حضارية وطنيةٍ مستوفيةٍ لشروط النهضة ، وصنعت ثقوباً تسلل منها ما نعيشه من حالة اسماها ” آلان دونو ” نظام التفاهة وسيطرة التافهين ، وهو حالة عابرة – بإذن الله – مرّت بها العديد من الشعوب والدول ، والسنن الكونية تقول إن الأمم والدول حين تصل الى مرحلة النقطة الحرجة “critical point “ ، وهي الحالة بين كل نهاية وبداية ، والتي فيها شئ من انعدام الوزن والتيه ، حيث لا رموز ثقافيّة ولا سياسية ولا فنية ولا رياضية ولا عسكريّة ولا مجتمعية ولا دينية ..الخ ، يمكن أن تقود الجماهير أو تلهم الأجيال و يتم الإلتفاف حولها ، وحيث لا توجد نخب واعية ولا متماسكة يمكن ان تصنع فرقاً . هذه الحالات لا تدوم طويلاً و سيتبعها مخاضٌ عسير ..وأحزان وآلام من خضمها ستولد أمة ويبرُز قادة ، او كما يقول هرقليطس ” كل شيء في حالة جريان، لا شيء يبقى على حاله” ، الان ليس في يد احد شئ ..الجميع متجه نحو مصيره ويعيش هذه المرحلة باخطاء الاذكياء او اطماع الأثرياء أو سلبية النخب أو استسلام الجمهور..
عند الميلاد القادم بإذن الله ووعي الاجيال الجديدة ومرارة التجارب التي ستُذهِبُ الزَّبد ليبقى ما ينفع الناس ، لابد من الخروج من قوامة الدولة الكاملة الى علو المجتمع القوي والواعي ، ولابد من الخروج من حالة الفردانيّة الى براح المؤسساتية و تحفيز الروح الجماعية والإبداعية وتحديد اهداف جامعة واعادة توصيف الحدود والسقوفات في كل الموضوعات والأطروحات ، أو كما قال تشرشل : “أن مفتاح ّإطلاق قدراتنا الكامنة، هو الجهد المتواصل و ليس الذكاء أو القوة.”

تعليقات
Loading...