عادل عسوم يكتب: إنّه صوت إبراهيم عليه السلام!.

الخرطوم :مرايا برس

ظل آذان إبراهيم عليه السلام يتردد في وجداني منذ أن قرأت هذه الآية الكريمة في صباي، فتعلق قلبي بمكة المكرمة منذ يُفعي، وإذا بي يكرمني الله بالقبول للدراسة في جامعة ام القرى، كان ذلك في بداية ثمانينيات القرن الماضي، اوصلني البص من جدة إلى المسجد الحرام، فدخلته من باب السلام معتمرا وملبيا، وقد تركت حقيبة ملابسي في أماكن حفظ الحقائب خارج الحرم، دخلت إليه من باب السلام وبيدي حذائي وفي قلبي تحتشد مشاعر شاب لتوه ولج إلى العشرين، اغرورقت عيناي بالدموع عند ولوجي إلى الصّحن السابح في لُجَّةِ الأنوار تتوسطه الكعبة المشرفة شامخة ترنو إلى السماء، سواد كسوتها الحريرية ينعكس على رخام الحرم صحنا وحوائط ومآذن، وكلما اقتربت من منطلق طوافي مقابل الحجر الأسود؛ يزداد تكاثف الأنوار فكأني بنور من الله يتغشى الكعبة، فبدت لي ككوكب دُرّى يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، وما فتئت الأنوار تتداخل وتصطرخ أمام ناظري إلى أن تغشت الدُنا الخيوط البيض الأولى من الفجر، وكنت حينها فرغت من عمرتي وتهيأت لصلاة الفجر.
وما إن أشرقت الشمس ذهبت إلى حيث يربض سكن جامعة أم القرى في منطقة الحوض/العزيزية، وكان سنيها داخل المنطقة الحرام قبل ان يتم نقلها إلى خارجه بعد تخرجي فيها، وفي مساء اليوم حرصتُ على الذهاب إلى جبل أبي قبيس، وذلك لحاجة في نفسي قضيتها مستصحبا الآية الكريمة التي خاطب فيها الحق سبحانه وتعالى نبيه إبراهيم عليه السلام:
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} الحج 27
منذ أن قرأت هذه الآية الكريمة ظل يتردد في دواخلي سؤالٌ:
كيف للناس أن يصلهم أذان نبي الله إبراهيم بالحج يومها؟!
لقد ذكر المفسرون بأنه عندما أمر الله إبراهيم عليه السلام بأن يؤذن في الناس بالحج سأل وقال:
– يا رب، كيف أُبَلِّغَ الناس وصوتي لا ينفذهم؟
فقال الله جل في علاه؛ نادِ وعلينا البلاغ!
فقام على مقامه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على جبل أبي قبيس (وهو الأرجح)، وصاح:
(يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه).
يقال بأن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه، من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله له أنه يحج إلى يوم القيامة (لبيك اللهم لبيك).
قال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر هذا الكلام؛ هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف، والله أعلم.
أوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة.
لم تكن البشرية يومها عرفت الشبكة العنكبوتية/الإنترنت، وكذلك كان الحال خلال الثمانينيات يوم وصلتُ إلى مكة المكرمة.
وقفت على جبل أبي قبيس، وكأن الزمان عاد إلى يوم وقف إبراهيم عليه السلام يؤذن في الناس، وإذا بي يتغشاني النعاس أَمَنَةً، ويتنزل عَلَيَّ من السماء ماء فيطهرني ويذهب عني رجز الشيطان، وربط الله على قلبي وثبت أقدامي، فأسندت ظهري إلى صخرة لاتقي رذاذ المطر وقد شرع في الهطول، وانبرى لي السؤال:
كيف وصل صوت نبي الله إبراهيم إلى الناس حينها وعلى مر السنوات والقرون، ليأتوا إلى بيت الله من كل فج عميق رجالا وعلى كل ضامر؟!
قلت لنفسي طالما كان الصوت مادة – والمادة كما هو معلوم لا تفنى إلاّ إذا شاء الله -، فإن الصوت/المادة يظل بعد خروجه من حنجرة صاحبه سابحا في الهواء من حولنا، وهذا يعني أن الفضاء مليء بالأصوات منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، تنتظر من يستطيع التقاطها وإعادتها إلى صورتها الأولى؛ وإن كان بعد وفاة صاحب الصوت بمئات الآلاف من السنين، وعلمت بعد ذلك بأن ذلك كان أحد الطموحات العلمية التي سُعِيَ إلى تحقيقها من خلال مشروع إسمه “حرب النجوم” تبناه الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان.
فسألت نفسي:
أليس من الممكن للبشرية أن تستطيع اكتشاف طريقة للدمج بين فيزياء الصوت وكيمياء وبايولوجيا الخلية البشرية لإيصال التردد الصوتي من خلال ال DAN و RNA وبقية مكونات خلايانا؟!
لقد أمرنا الله بالتفكر في الكون وفي ما خلق الله، وجعل ذلك ديدناً لرسله وأنبيائه:
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 13الجاثية.
{أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}61
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}البقرة 163-164.
امضيت من عمري سنوات خمس في الجامعة، وتشرفت بنيل البكالوريس منها، واكرمني الله بغرس (شجرة نيم) في عرفات الله، ثم عدت إليها في نهايات التسعينات لأجدها شجرة ظليلة، فوقفت تحتها وأنشدت هذه الابيات:
مُدِّيْ غُصونَكِ في دلال
وارفدي الحجاج دوما بالظِلال
وتَمَايَسِي فالأرضُ طهرٌ
وكل السُّوح يَغْمُرُها الجَلال
إنَّها عَرَفاتُ ربِّي
حيثُ يَغْفِرُ ثُمَّ يَهْدِيْ كُلَّ ضَال
الناسُ اذْ سَمِعُوا النِّدَاء من الخليل
جاؤه بالضُمُرِ النَّحِيْلَةِ أو رِجال
هتف الخليل عليه من ربي السلام
فارتجّت الأرضُ الخلاء
وكل هامات الجبال
إنه نِعْمُ الأذان
بل إنَّه نفحُ الدُّعَاءِ
يوم جاء الوادِ قفراً ورمال
وأناخ النوقَ قرب البيت زُلفى
فوقها اسماعيلُ محمودُ الخِلال
هانئ في حضن هاجر
إنها زوج نبي
وهي أمٌّ لنبي
أبشري بالخير، ياااانعم المآل
ومضى الخليل من بعد السؤال
أَدَعَاك ربُك؟!
إذن فالله لن يخذلنا بحال
فهي تعلمه نبي
إنه بشرٌ
ولكن فيه احتشدت خِصال
فهو لم يركع لغير الله يوما
وسَعْيُ الرزق دوما في الحلال
وإذا بالنار برد وسلام لا اشتعال
ومضت أيامُ هاجر في الحرم
نفد الطعام ولَبَن الضرع زال
واستبد الجوعُ بالطفل الرضيع
فانبرت لل(سعي) عطشى
سبع مرات سجال
يا إلهي، ليس في الأنحاء إنسٌ
وظهرُ الوادِ من الزّرع خال
وانبرت لله تدعو
فإذا بالماء سال!
مَدَّتْ َأيَادِي الشُّكر طُرّاً
وانحنت للنبعِ تَحثوهُ الرِّمَال
أقعت (تَزُمُّ) الماءَ زَمَّا
لينأى عن السَّوَحَانِ في جوفِ التِّلال
ليتَ هاجَرَ لَمْ تَزُم!
لاستحال ال(بئرُ) نهراً من زُلال.
لاستحال البئرُ نهرا من زلال.
عادل عسوم.
عرفات الله.

[email protected]

تعليقات
Loading...