عادل عسوم يكتب :(البت سعاد).. دقت الدلوكة قلنا الدنيا مازالت بخير.

الخرطوم _مرايا برس

هذه الأغنية تعد عملا مسرحياً بديعا لما ذخرت به من صور حية في ثنايا هذه القصيدة الجميلة،
واخال كابلي عند تلقيه لكلمات هذه القصيدة -الآتية على مجزوء الوافر- قد كانت لديه العديد من ال(بدائل) الايقاعية واللحنية وهي:
1- الرقي
2- التُم تُم
3- المردوم
لكنه -ولسبب ما- اختار لها (الدليب) ايقاعا وقالبا لحنيا!
يا تُرى لماذا؟!
هذا هو ابتدار القصيدة:
دقّتْ الدَلّوُكَهْ
قُلنا الدنيا ما زالت بخير
أهو ناس تعرِّس وتنْبَسِط.
بلا جدال فإن ايحاء لفظة الدلوكة هنا، حريّ به أن يدفع بالذي يتعامل مع هذا النص، إلى السمت الذي يتسق مع عوالم الدلوكة، وهي الصورة الغنائية لأهلنا الجعليين الذين ينتمي إليهم شاعرها الراحل الجميل عمر الطيب الدوش، لكن كابلي -الذي عاش في مروي سنوات من عمره- أوسع من زاوية النظر الى كامل بُنية القصيدة، فوجد ايقاع الدليب الأكثر قدرة على التعبير عن مكنونات النص، وترجمة الصور المرسومة فيه إلى واقع مشاهد غني بالحراك الحياتي…
وأخال كابلي قد استصحب في خاطره بديعته التراثية (فيكي يامروي شفت كل جميل)،
إذ لعلها التي جعلته يختار إيقاع الدليب لهذه القصيدة الماتعة…
فإيقاع الدليب، وزخم الصورة الملحمية الادائية التي تسم عوالم أغنيات الطنبور، لاغرو لها سحرها وألقها على كل الأعمال الغنائية التي تخللتها، وذاك لعمري الذي جعل عددا من مبدعينا -ممن لاينتمون إلى حاضنتها الجغرافية- يعمدون إلى إدراجه في قوالبهم اللحنية، وفي مقدمتهم راحلنا وردي، وآخرون كثر…
للاقتراب أكثر إلى سوح هذا العمل الفني البديع وفضاءاته دعونا نقرأ معا هذه الجزئية:
تكْكَّتَ سروالي الطويل
سويتْلُو رقعات فى الوسط
فى خشْمِي عضّيت القميص
أجرى وازبِّد شوق وانُط
لا مَن وصلتَ الحفلَهْ زاحمتَ الخلق
وركزْتَ شان البِتْ سُعاد.
المشهد هنا أجد فيه شبها بمشهد آخر لشاعر مبدع آخر هو صديقي السر عثمان الطيب، وذلك في ثنايا قصيدته الخالدة التي غناها الراحل محمد كرم الله وهي (المشتهنك) حيث يقول:
حارسين شويفعنا البجيب لينا البشارة يجيب أمل
يجري ويناهد من بعيد شايلو شنطة وبي عجل
يفرح يقول خليتو جاي وراي يسالم في الاهل
والساعة ديك عاد البلد تنجارا قاصداك يا السمح
والناس توسوس لي بعض يي داك وصل والله صح
حتي اللي كان محزون وباكي اليلي عاد هش وفرح
بي يوم رجوعك يا حبيّب روحنا تب يبرا الجرح
مبدعانا الشاعران المُجيدان الطيب الدوش والسر عثمان الطيب، رسما بالأحرف مشهدين ذاخرين بالصور الحياتية، وهنا يلزم أيما ملحن يود التعامل مع مشهد منهما، أن يحسن إختيار الإيقاع والقالب اللحني الذي يستجيب ويترجم هذه الصور الحياتية المبثوثة في كل مشهد، لتكون المحصلة، عملين رائعين تتكامل في كل منهما عناصر الإبداع من كلمات ولحن وأداء…
ولأن كانت رائعة السرير ومحمد كرم الله قد فعلت ذلك، فإنني على بقين بأن ماتعة كابلي هذه لاتقل عنها إبداعا، ولعلي أقول بأن هذا العمل الفني قد ظُلم فيه الدوش وكابلي معا ظلما بائنا، لكونه لم يحظ ما يستحقه من تثمين ورواج…
لا أنكر بأن نظرتي إلى هذا العمل – والذي جمع مالا يُجمعُ – لا تخلو من الارتهان إلى أمر (شخصي)، حيث جدتي لأبي جعلية من منطقة المتمة واسمها الزهراء بت الشريف ابوسَم رحمها الله ،بينما قوام أهلي شايقية، وقصيدة إبن شندي الراحل عمر الطيب الدوش، بما فيها من صورٍ مأخوذة من عمق الحياة الجعلية، وصفاً لمشهد الفرح، وما يكتنفه من بُطان، ثم مآلُهُ من لحنٍ أسسه كابلي على إيقاع الدليب وهو -أي كابلي- الذي لا يمت لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك الاّ بوصال الوطن الجميل، أحسبه يضيف إلى استحساني وإعجابي بهذا العمل بعدا آخر وسعة في زاوية نظري إليه.
ولا أدري لِمَ تحضرني بين بين يدي هذه الأغنية الماتعة لوحة الموناليزا (الجيوكندا)!
هذه اللوحة كما هو معلوم، قد لفتت نظر النقاد وذلك لمزاوجتها/جمعها -في ثنايا إبتسامة صاحبة الصورة- ما لا يكاد يجمع!
إنها مشاعر ومظهر ال(حُزن) وال(فرح) معاً، وشتان مابين الحزن والفرح!
راحلنا عمر الطيب الدوش -في هذا العمل- لا يبدو لي ذات الدوش الذي كتب روائع وردي، أمثال (الود) و (الحزن القديم) و(بناديها)!
ولعلي إن أعطيت فرشاة ولوحا وألوانا، وطلب مني أن أرسم صورة للشاعر الذي كتب ماتعات وردي تلك، لرسمت شاباً كثيف الشعر يلبس بنطال جينز أزرق، وقميص لونه وردي أو بيج أو بنفسجي …
أما ان طلب مني رسم الشاعر التي أتحفنا ب(البت سعاد/ دقت الدلوكة قلنا الدنيا مازالت بخير)، لرسمت رجلا تعدى منتصف العمر، يتزيا بعراقي وسروال وسديري، ويتدلى من خاصرته سيف مغمد في جفيره، وبيمينه سوط عنج ابولسانين!…
فالقصائد هنا وهناك لذات الشاعر! وذات الوجدان! وذات القلب الذي يحتقب الصورتين!، هنا يكمن ادهاش ابتسامة الموناليزا!…
والأمر إن جهدنا لتبيانه، ليس بأمرِ قدرةٍ على التعبير عن المشاعر والاحاسيس بقدر ما هو أمر قدرة -فائقة- على ال(رسم) بالكلمات!…
فشاعرنا الجميل عندما تقرأ له ماتعات وردي، تكاد تجد الأحرف التي كتب بها تلك الأعمال المجيدة، لا تلبث الاّ أن تعتمر لها جناحين، لتطير تباعا كفراشات تنطلق من أصيص زهور، بينما تجد ذات الأحرف التي صاغ منها راحلنا الجميل البت سعاد، تتحول إلى شخوص من لحم ودم، تراها أمامك مفعمة بالحياة حراكاً وحميمية!…
فكم تسمو بي الحزن القديم!
وكم تطير بي كلمات بناديها!
وكم تهدهد كياني كلمات الود!…
أما كلمات هذه الماتعة، فإنها تشعل فِيّ صهيل افراس، وتجعلني اتبين سودانيتي المتشاطرة مابين أهلي الشايقية واهلي الجعليين، علما بأنني ولدت في اقاصي الشرق في كسلا، ثم أمضيت شطرا من طفولتي بين ظهراني أهلنا السكوت والمحس في جزيرة صاي، ولم أفتأ اتحدث النوبية.

[email protected]

تعليقات
Loading...