عادل عسوم يكتب : ذكرياتي في ألمانيا.

الخرطوم :مرايا برس

مرايا برس 

ذكرياتي في ألمانيا… عادل عسوم 

لقد ارتبط عملي هنا في السعودية بألمانيا حيث قدر لي بأن أزور تلك البلاد عديد مرات، ولعلي قد كتبت عن ذلك في عدد من المنابر لكنني سأجهد في لملمة ذلك في ثنايا هذا المقال.
لعل أول ما لفت انتباهي -عندما وطأت قدماي أرض ألمانيا-لغتهم العجيبة، ولعلي يجدر بي أن أذكر بالخير صديقا من أبناء الأراك كان قد عمل بحارا ثم (زاغ) واستقر في المانيا وحصل على اللجوء فيها…
صديقي هذا لعله من أطرف واظرف من التقيت…
سألته مرة عن الألمان فقال لي وهو (يميل):
عليك أمان الله الناس ديل وكت ينضموا مِيْ مِتْلَ التَكَنَّك ماشيلَك فوق وَرْتَاب.
وقد صدق…
فعندما يتحدث ألمانيان أمام ناظريك تتبدى لك أصوات الأحرف والكلمات تماما كصوت صحن من الصيني يُلقى على أرضية المطبخ فتسمع صوت تكسره كششش…
بل كم خيّل لي عندما استمع الى ألمانيين يتحادثان بأنهما لامحالة سيتشاجران بعد قليل!
لذلك فاني عندما قدر لي بأن أستمع واشاهد خطابات هتلر -لاحقا- فلم أستغرب ل(كواريكه) تلك…
لكن…كم بدا لي هذا الشعب الألماني شعب (جاد) جدا!…
وبرغم تلك الجدية فقد تبينت فيهم حبا عجيبا لموسيقى الأوبرا…
حبٌّ يصل حد الهيام بل الهوس!
ولعلي اختم مقالي بحكاية هؤلاء الألمان مع ملك الأوبرا الايطالي الراحل (بافاروتي) الذي قدر لي أن أستمع اليه واشاهده عيانا على مسرح مدينة (لوبيك) الجميل…
وأذكر انني خلال زيارتي الأولى لتلك المدينة -وكنت حينها مستضافا في فندق اسمه موفمبك- خرجت لاتسوق من سوبرماركت يجاور الفندق وخلال تجوالي داخل المكان تفاجأت بالعديد من الأطفال يحدجوني بنظرات تنم عن اندهاشم، واذا بطفلين يقتربان مني ويمدان كفيهما ويلمسان يدي ثم يعدوان تجاه اميهما، وكل منهما ينظر -أثناء عدوه- الى الأصبع الذي لمسني به وكأني بهما يحسبان جسدي مطليٌّ بلون أسود مما جعلني أحس يومها بأن لوني قد أصبح فاقع السواد بالرغم من لوني الفاتح نوعا ما (ولعلها المقارنة الى لونهم المشع بياضا).
شئ آخر لن أنسه في تلك المدينة الجميلة وهو اسم الطريق الذي يقع عليه الفندق والشركة التي أزورها (دريقر) في تلك المدينة…
هذا الشارع إسمه (موزلنق أَلِي استرات) وهي -كما أخبرني أحد الأتراك هناك-تعني(شارع المسلم عَلِي)!
فشارع اسمه (مسلم) و(علي) ويقع في وسط مدينة ألمانية شهيرة اسمها (لوبيك)؟!…
ذاك لعمري ما يجعلني أتحدث عن قصة الألمان مع الاسلام ،حيث ستظل صورة بروفيسرة ألمانية عجوز صادفتها خلال سفري الى مدينة هامبورق بالقطار ماثلة في ذاكرتي دوما…
كنت أجلس لوحدي على مقعد من مقاعد عربة القطار السريع وبيدي صحيفة عربية أتصفحها -وأظنها القدس العربي- فما كان منها الاّ أن جاءت وجلست بازائي …
فتابعتها من طرف خفي فوجدتها ترغب في الحديث معي…
وما ان أزحت الصحيفة عن وجهي الاّ وسألتني بانجليزية لابأس بها:
-يبدو انك عربي؟
-نعم أنا من السودان
-هل هو السودان الذي يقع جنوب مصر؟!
-نعم هو …
(صدقوني كم أستاء عندما أجد شخصا يستدل على بلدي بمصر)!…
عَرّفتني المرأة بنفسها على أنها تعمل في احدى الكليات الجامعية في مدينة هامبورج، وأنها سبق لها أن زارت مصر والسودان والعديد من الدول الاسلامية من قبل…
وتواصل نقاشنا وحديثنا طوال الرحلة الى أن قالت لي الآتي:
-نحن الألمان شعب يتملكنا احساس بأننا متميزون على كل هؤلاء الأوربيون في كل شئ…
وقد كنا -يوما- نتسيد أوربا بل كل الدنيا …لكننا وجدنا أنفسنا فجأة بلا شئ يميزنا!
فاللغة الألمانية أضحت لا تنافس اللغات الأوربية الاخرى مثل الانجليزية والفرنسية…
وحتى الدين المسيحي يعتبره الألمانيون دينا للايطاليين وبقية الأوربيين قبل أن يكون دينا لهم!…
والرأسمالية هنا والشيوعية في الجزء الآخر -السابق- من ألمانيا ليسا سوى ثقافتين دخيلتين على ألمانيا…
لكل ذلك فان الألمان -وبما يعتورهم من شعور عميق بالرغبة في التميز -هم أقرب الناس لاعتناق الاسلام بأكثر من بقية الأوربيين على اجمالهم.
قالت لي ذلك…
ثم سألتني عندما علمت بأنني قادم لتوي من مدينة لوبيك.
-هل زرت السيد مراد هوفمان هناك؟!
مراد هوفمان هذا هو لديبلوماسي ألماني أسلم بعد أن عمل كسفير لألمانيا في بعض دول الشمال الأفريقي لأعوام ثم كتب العديد من الكتب عن الاسلام…
وبحمد الله كنت قد زرت الرجل في بيته في مدينة لوبيك خلال زيارة سابقة قبل أن ينتقل الى مدينة أخرى بالجوار وأهدى بيته الى المسلمين ليصبح المسجد الكبير في مدينة لوبيك والذي تشرفت بالصلاة فيه لمرات عديدة خلال زياراتي المتفرقة لتلك المدينة…
وقد صدقت المرأة…
فالحق أقول بأنني قد وجدت هؤلاء الالمان أكثر الشعوب الأوربية قربا الى الاسلام! …
لقد تلمست ذلك فيهم خلال زياراتي العديدة الى مدن تلك البلاد الى أن ختمتها بزيارة -سأتحدث عنها لاحقا-الى الزاوية البرهانية الكبيرة في مدينة شتوتجارت إن شاء الله…
وعودا إلى اللغة الألمانية اقول:
بالرغم من (دشانة) هذه اللغة الاّ انه يجدر بي الاعتراف بإستلطافي لكثير من خواتيم الكلمات لديهم، لما لها من موسقة وايقاع جميل…
تلك الخواتيم تندرج في مفردات مثل (سايم) و (آون) و (هاقن) التي لها وقع -على الأذن -بديع عندما تكون صادرة من أنثى!…
ولعلي أقول بأن لحظات الهدأة مِنِّي -دوما- يكتنفها (صوتٌ) لم يزل باقياً في مطاراتهم ومحطات قطاراتهم بل -حتى-في المحلات التجارية وهو تسجيل لصوت أنثى ألمانية كم أجد فيه بصماتٍ من صوت راحلتنا (ليلى المغربي) رحمها الله!
ولعلي من الثقة بمكان القول بأن الألمان يعلمون جلياً شتارة وقع لغتهم على الآذان لذلك قد عمدوا الى هذا الصوت ال(أوحد) الرحيم في كل مطاراتهم ومحطات قطاراتهم وذلك كي يكون وسيطا -مموسقا-لايصال تفاصيل الرحلات للناس في كل محطات السفر…
ولا أخال عشقهم الاسطوري للأوبرا الاّ ردة فعل لوجدانهم الذي يتأبّى من أن يتقبل تلك الشتارة في لغتهم…
ولان نسيت فلا أخالني أنسَ أيضا زيارة لي -خلال عطلة نهاية الأسبوع-أنبأتني عنها المسؤلة عن الترفيه في شركة دريقر -الى مدينة مجاورة…
فقد تفاجأت لكون الزيارة الى بيت جد وزير الدفاع الأمريكي -يومها- (دونالد رامسفيلد)! …
إنه مبنى كبير كائنٌ في المدينة المجاورة لمدينة لوبك…
والحق أقول بأنني لم أرتح لهذا الرجل منذ أول يوم رأيت فيه وجهه (السنيح) ذاك…
واذا بي أزداد له شنآنا وبغضا عقب الذي فعله في سجون العراق وقوانتانامو!…
يممنا صوب الدار -القعلة-التي تبدو للناظر اليها على أنها دار عمدة أو شيخ بلد…
فالرجل كان جده دوق له تاريخٌ قمئ حدثني عنه أحد الألمان المسلمين من ذوي الجذور التركية فقال:
جد رامسفيلد هذا عُهِدَ عنه أنه لم يكن يدع فرصة للحديث الاّ وكال السب والشتم على المسلمين، وقيل لي بأن جده الأكبر قد قُتِلَ خلال الحملات الصليبية على بيت المقدس أيام صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وأرضاه…
بين يدي كل ذلك تبينت سبب كره الرجل للإسلام والمسلمين في ثنايا مافعله خلال حرب العراق ومافُعِلَ في عهده بالمسلمين في سجون غوانتانامو…
ومافتئت قماءة الرجل تترى عندما تكشف للناس دوره في إلزام هيئة الصحة العالمية بأن (تهول) للناس أمر مرض انفلونزا الطيور أو الخنازير فكان تنتاج ذلك أن كسبت شركته المنتجة والمسوقة لدواء (التاميفلو) مئات الملايين من الدولارات قبل سنوات!…
خاتمة:
مدينة لوبيك هذه مدينة في حدّ الذاكرة، ولن أكون مغاليا ان قلت بأنها أجمل مدن العالم…
ياااااه
ما أجملها وهي تتمدد في الشمال الألماني دون أن تنسى بأن تحتضن كثيرا من أمواه بحر الشمال الملأى بمئات الطوافات المائية!…
المباني فيها يتبدى على محياها ترفُ تشكيلات ال(هانزا) …
والناس يأتلقون بجمال اسكندنافي بهي …
بياضهم يكاد يضئ …
وشعورهم شُقرٌ يكاد يسيل من دونها الذهب كما يغني صلاح ابن البادية!…
لقد اعتدت السفر اليها كثيرا لزيارة مصانع (دريقر) الألمانية التي تصنع ال(gas monitors& detection systems) حيث تمثلها الشركة التي أعمل بها هنا في السوق السعودي والخليجي…
ويومها…
أعلمني مدير تسويق الشركة (مارك هاناماير) بأنهم قد أكملوا بناء أكبر مسرح على شاطئ بحر الشمال وذلك احتفاء بزيارة مغني الأوبرا الإيطالي العالمي (بافاروتي)…
أخذني الرجل بسيارته الأوبل الفخمة الى مسرحهم المهيب ذاك…
وهناك…رايت الإبداع في أقصى معانيه!…
مسرح مبني على شاكلة مبنى الأقواس الاسترالية ،يربض على شكل حدوة حصان مذهبة تتمدد بعييييدا الى داخل أمواج البحر…
وعلى الحواف بدت سرابات من اشجار نخيل الزيت ،تضج بأنوار تكتنف ناظريك من كل أنملة على طول كل نخلة!…
وبين يدي ذاك المسرح ،وعلى طول الشاطئ تقبع سُفُنٌ مزينة بكهارب تنعكس على اديم مياه البحر، فتحار أهي رابضة فوق الماء أم تحته!…
وحانت اللحظة التي ينتظرها عشرات الألوف من المشاهدين عندما اعتلى بافاروتي (ساحة) المسرح ولا اقول خشبته!…
وانطلقت من خلفه سحب كثيفة من دخان الأوكسجين ليزداد ائتلاق الأنوار والكهارب طُرّا…
فوقف عشرات الألوف من المشاهدين يصفقون مرحبين ببافاروتي ،وبين يديه (انتثرت) عشرات الحسان -أحسبهن من راقصات الباليه- يدرن بين يديه كالفراشات ،يلبسن زيّا فضّيا فبدين على شاكلة حوريات للبحر، وقد جعلوا مولجهن الى المسرح من نفق ينتهي بوردة تتفتح لتتفاجأ بهنّ حوريات يخرجن من لُجّة مياه البحر!!!…
وقف بافاروتي موجهة اليه أنوار الدنيا كلها…
و(صنقع) ثم (طقّ الكواريك)!…
اعذروني ياأحباب إذ لم أجد وصفا أَلْيَقَ بما فعله بافاروتي يومها الاّ بال(كواريك) ههههه
فإن كانت آذان الناس تتشكل على الذي يليها من أنغام وموسقة فمالي أنا وغناء الأوبرا؟! فقد أوشكت بأن أكون مثل (مستر بين) الذي لم يجد بدا من أن ينزع جواربه ليسد بهما أذنيه…
وكم حاولت جاهدا بأن أطرب كغيري من تلك الألوف المؤلفة لبافاروتي لكنني عجزت عن ذلك عجزا مبينا، فما كان مني الاّ أن جلست مرغما أوزع ابتساماتي المصطنعة على مجاوريّ واتمايل معهم مجاملا الى أن انتهى الحفل…
وبقيت تلك الليلة ماثلة في ذاكرتي الى يومي هذا أعيد شريط ذكراها كلما استمعت الى (النور الجيلاني) عندما يغني يامسافر جوبا…
وقد عَنّت لي فكرة وهي أن آتي يوما ببافاروتي يوما ليغني الأوبرا في نادي بُرِّي العائلي أو نادي الضباط وأأتي معه بالنور الجيلاني ليشاركه الغناء بأغنيته (يامسافر جوبا) ،لكن فقد ضاعت جوبا ،وبافاروتي زااااتو اتلحس…
ولم يبق لنا سوى النور الجيلاني أسأل الله أن يمتعه الله بالصحة ويرد عليه صوته.

(المقال بمناسبة وفاة وزير الدفاع الأمريكي السابق، رامسفيلد).

[email protected]

تعليقات
Loading...