عادل عسوم يكتب : طلع البدر علينا. 

الخرطوم :مرايا برس

الخرطوم :مرايا برس 

كم طربت وهاجني استعبار عندما استمعت إلى مقطع لطفل سوداني اسمه عبدالرحمن ينشد انشودة طلع البدر علينا…
ما كان مني إلا أن شرعت أبحث عن هذه الأنشودة في ثنايا مقاطع اليوتيوب فإذا بي أجدها على أفواه العديد من المؤدين افرادا وجماعات، إن كان عندنا في السودان او في عالمنا الإسلامي الفسيح!
ولاغرو أن هذه الأنشودة لها طعمها الخاص ووقعها لدينا في السودان، بل وصل الأمر أن حكت الطرفة عن ذاك الذي انتهر ابنه عندما سمعه يتلاعب بكلماتها وهو في الحمام فقال:
-ياولد أوعك تاني تتلاعب بالقرآن.
فما كان من زوجه وبقية أبنائه إلا الضحك قائلين له بأنها نشيد وليست قرآنا، وقد أضاف البعض إلى الطرفة بأن زولنا عقّب وقال:
– بالله أنا السنين دي كلها أصلي بيها مع الفاتحة قايلا سورة…
لم أنْسَ بأننا درجنا علي تلحين هذه الأنشودة البهية خلال فترة الدراسة الإبتدائية بلحن كنا نشبع الفتحة خلاله في كل كلمات الانشودة فنمدها مدا يصل الى السبع حركات او اكثر (كما يقول أهل التجويد)، أي كنا نقول:
طالعاا البااادر علينا من ثنياات الوداااااع.
واجاباا الشوكرو علينا مادعا لله داااااع.
وهذا اللحن (المدرسي) لا أجده يتسق مع رمزية معانِ الأنشودة وايحاءاتها، وكذلك أجد اللحن المطروق والمعتاد في عالمنا الإسلامي يشتمل أيضا على ذات المد الخاطئ (وان كان بصورة أقل)، وذاك يؤدي الي خلل تركيبي في كلمات الأنشودة وسياقاتها، وبالتالي خلل في معاني الكلمات ومآلات وقعها وتاثيرها علي اذن المستمع والمتلقي…
لذلك فقد توقفت مليا بين يدي لحن ابننا عبدالرحمن فوجدته أوفق واكثر اتساقا مع معاني ومباني الأنشودة باكثر -حتي- من اللحن المعتاد في عالمنا الإسلامي…
قد يقول قائل بان اللحن المعتاد في عالمنا الاسلامي أكثر تناغما مع ايقاع الدّف الذي يتسق اكثر مع كون الأنشودة (ترحيبية) لقادم كريم، والمراد منها ان تلهب حماس المستقبلين وتعبر عن مشاعر الاحتفاء منهم، لكنني اقول بان (آنِيّة) الأنشودة قد انقضَت اليوم، وهي الآن أضحت ذكري جميلة للمسلمين بين يدي سيرة الحبيب المصطفي صلوات الله وسلامه عليه وآله، لذلك ينبغي -او الاوفق- ان يكون ايقاع الانشودة ايقاعا هادئا يتناغم مع تماهي القاريء مع تفاصيل السيرة النبوية الشريفة ومايلزم لذلك من سكينة ووقار…
لذلك فانني ادعوك عزيزي القارئ إلى الاستماع لكل هذه الألحان ثم مقارنتها بلحن ابننا عبدالرحمن لتتبين كل ذلك…
هذه الانشودة لها قصة جميلة حدثت لي قبل سنوات خلال رحلة عمل إلى مدينة شانون في دولة آيرلندا للتدريب على اجهزة تسمى بالmoisture analyzers، وذلك لدى الشركة الصانعة واسمها:
Ge Panametriics
جئت إليها في معية عدد من المهندسين موفدون من الشركات الممثلة للشركة الصانعة هذه في عدد من دول الشرق الاوسط، وقد نزلنا في فندق ريفي جميل من فنادق المدينة إسمه Oak wood arms، وشانون مدينة تفاجئك بملامحها الشرقية وهي الكائنة علي ضفة نهر شانون الجميل،
و OAK WOOD ARMS تعني (أيادي غابة أوك)، وقد كنت أقلب (ألف) أوك (عينا) للإستئناس بالإسم، اذ أن (عوك) هو اسم الحي الذي اقطنه في القرية التي انتمي اليها في شمال السودان واسمها (البركل)…
أمضيت في تلك المدينة أسابيع ثلاث جميلة لا اخالها تُمْحَ عن ذاكرتى، وقد قيض لي الله خلالها أن تناقشني إبنة صاحب الفندق عن الإسلام مرارأ، فإذا بمآلات جدالنا ونقاشنا إعلانها لإسلامها على يد الداعية الإسلامي الإنجليزي يوسف إسلام (وهو المغني السابق كات ستيفنسن) وإليكم تفاصيل ذلك:
قدر لي الله ان أذكر -خلال نقاشنا وجدالنا- إسم (كات استيفن) وأنا أحصي لها عددا من أسماء المشاهير الذين اعتنقوا الاسلام، وقد كانت تراه دينا يدعو الي الرجعية والتخلف عن ركب الحضارة الغربية، فاذا بها تسألني والدهشة تكتنفها:
– هل حقا أسلم كات استيفن؟!
فاجبتها بثقة بأن نعم، وما كان مني إلا أن اتصلت بالاخ والصديق يحيي محمد الحسين المقيم في مدينة دبلن وهو من أبناء نوري وقد كان حينها مديرا للمركز الاسلامي في حاضرة آيرلندا، وطلبت منه رقم هاتف الشيخ يوسف اسلام في مدينة لندن، فإذا به يفاجئني بأن يوسف إسلام معه الآن في بيته في دبلن!، وتحدثت إلى الشيخ يوسف اسلام لاخبره بقصة كرستينا، ثم تكلمت معه على الهاتف وهي جذلى فَرِحَة لكونه فنّان الأسرة المفضل!…
والمعلوم أن الايرلنديون فيهم الكثير من السمات الشرقية، ومن ذلك الحفاظ علي لُحْمةِ الأسرة الممتدة لديهم، وعدم الاقتصار علي طفل او اثنين كما الحال في بقية دول الغرب، فكثيرا ما ينبيني أحدهم بأن له العديد من الاشقاء والشقيقات قد يزيدون عن العشر!…
وجاءنا يوسف إسلام إلى مدينة شانون خلال عطلة نهاية الأسبوع مصطحبا معه آلة الجيتار، وعزف لكريستينا واسرتها وغني العديد من أعماله الفنية القديمة، ثم ختم ذلك باداء رائع ل(طلع البدر علينا)، فكان يبتدر المقطع باللغة العربية ثم يتبعه بالترجمة الانجليزية بذات لحن طلع البدر علينا المعتاد، وشاركناه جميعا الإنشاد وسط دموع كريستينا وأسرتها وهم المحبون لأغان كات استيفن التي شكلت سوحا من وجدانهم، وكم كانت السعادة تكتنف وتحوّم فوق تلك الأسرة وهم يتحلقون حوله!…
وبحمدالله انتهي المطاف بكريستينا الي اعتناق الإسلام فنطقت بالشهادة بين يدي الشيخ يوسف اسلام بعد عام من ذلك اليوم، ثم زوَّجَها الأخ الفاضل يحيي محمد الحسين لِمُقيمٍ فلسطيني، وقد تبعها عدد من افراد اسرتها إلى دين الله الخاتم مسلمين…
لكن هذه الأنشودة وبكل بهائها الذي نعلم لم يثبت لدى المحققين أنها (ثابتة) وانها قد قيلت من الأنصار احتفاء بقدوم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم اليهم مهاجرا!…
فقد ضعف الشيخ الألباني حدوثها!
وبالفعل تبينتُ ذلك خلال سبري لغورها وذلك من خلال شواهد ثلاث:
1- أولا لم ترد هذه الأنشودة في سيرة إبن إسحق وهي أولى المصنفات بل يعد العمدة في كتب السيرة!…
2- ثانيا، مسمى (المدينة) لم يرد حينها، إذ لم تحمل (يثرب) إسم المدينة إلا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم اليها و(استقراره) فيها بأشهر كما ذكر ابن إسحق، فكيف تنشد نساء الانصار ويقلن (جئت شرفت المدينة) وهي يومها تسمى بيثرب؟!
3- ثالثا، لقد جاء النشيد على وزن بحر الرمل، وهذا البحر يغلب على الشِّعرِ المرتجل ولم يكن معهودا لدى أهل المدينة حينها، ثم إن في النشيد رِقّة و(لين) لايناسب أساليب القول في الزمن المنسوب إليه النشيد، إنما يناسب القرن الثالث الهجري على أقل تقدير…
وبذلك فإن انشودة طلع البدر علينا بصيغتها الحالية (منحولة)، إذ لم ترد على أفواه نساء الأنصار رضوان الله تعالى عليهن خلال ترحيبهن بمقدم نبينا صلوات الله وسلامه عليه وآله مهاجرا إلى يثرب…
ولتأكيد (نحل) هذه الانشودة يحسن ان نعرض لما قاله الشيخ الألباني رحمه الله:
أورد الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله هذا الحديث في السلسلة الضعيفة، فقال:
عن عبد الله بن محمد بن عائشة رحمه الله قال: لما قدم المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلْـنَ :
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع.
سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة المجلد الأول (برقم 598).
قال العلامة الألباني في تخريج الحديث:
ضعيف، رواه أبو الحسن الخلعي في الفوائد وكذا البيهقي في دلائل النبوة، عن الفضل بن الحباب قال سمعت عبد الله بن محمد بن عائشة يقول، فذكره
وهذا إسناد ضعيف رجاله ثقات، لكنه معضل، سقط من إسناده ثلاثة رواة أو أكثر، فإن ابن عائشة هذا من شيوخ الإمام أحمد وقد أرسله، وبذلك أعله الحافظ العراقي في تخريج الإحياء.
ثم قال البيهقي كما في تاريخ ابن كثير (5 / 23): وهذا يذكره علماؤنا عند مَـقْـدَمِه المدينة من مكة لا أنه لما قَدِم المدينة من ثنيات الوداع عند مَـقْـدَمه من تبوك). وهذا الذي حكاه البيهقي عن العلماء جزم به ابن الجوزي في ” تلبيس إبليس ” ص 251 تحقيق صاحبي الأستاذ خير الدين وائلي)، لكن رده المحقق ابن القيم فقال في “الزاد” (3 / 13): وهو وهم ظاهر؛ لأن “ثنيات الوداع” إنما هي ناحية الشام لا يراها القادم من مكة إلى المدينة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام). ومع هذا فلا يزال الناس يرون خلاف هذا التحقيق، على أن القصة بِرُمّـتها غير ثابتة كما رأيتَ
(تنبيه): أورد الغزالي هذه القصة بزيادة: “بالدف والألحان” ولا أصل لها؛ كما أشار لذلك الحافظ العراقي بقوله: (وليس فيه ذكر للدف والألحان).
وقد أغتر بهذه الزيادة بعضهم فأورد القصة بها، مستدلاً على جواز الأناشيد النبوية المعروفة اليوم، فيقال له: ” أثبت العرش ثم أنقش”! على أنه لو صحت القصة لما كان فيها حُجّة على ما ذهبوا إليه كما سبقت الإشارة لهذا عند الحديث (579) فأغنى عن الإعادة).
وقد اعتمد الشيخ الالباني علي سببين اساسين لتضعيف الحديث الذي وردت فيه قصة انشودة طلع البدر علينا وهما:
1-كون (ثنيات الوداع) كائنة في الواجهة المطلة علي الشام من المدينة.
2-عضل الحديث.
لكن لقد اختلف المؤرخون حول موقع ثنيات الوداع…
واليكم هذا المنقول الذي يبين ذلك:
الاختلاف في تحديد مكان الثنية:
اتفق أغلب المؤرخون على وجود ثنيتان في المدينة المنورة إحداهما على طريق الشام في الجهة الشمالية بالقرب من الباب الشامي، والثانية في الجهة الجنوبية على طريق مكة، وكلتاهما تسمى بثنية الوداع، وذلك لتوديع المسافرين عندها. والثنيتان هما:
الثنية التي تقع بعد الباب الشامي: وهى التي تقع عند مفرق طريق العيون وطريق الصحابي الكريم حمزة بن عبدالمطلب وكان يقع عليها مسجد الثنية وهو مقابل جبل القرين في بداية طريق مسجد قباء ومقام عليها حاليا القلعة العثمانية…
ويبقى الاختلاف التاريخي قائما في تحديد اي من الثنيتين استقبل عندها الانصار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد واله عدد ماسبح لك من حي وجماد.
[email protected]

تعليقات
Loading...