عثمان الشيخ يكتب:الأحزاب السودانية تحت المجهر.

مقالات:مرايا برس

▪️نشأت الأحزاب السودانية الحديثة قبيل استقلال السودان . معلوم أن الحزب هو اجتماع بعض المواطنين حول مفهوم سياسي أو فكري و من ثم يتعاهدون على تقنينه بصياغة دستور منظم و لوائح ضابطة للعضوية و الإدارة و التمويل و التفويض. بهذه المواصفات تكون الأحزاب السياسية من أهم منظمات المجتمع المدني في تاريخ السودان المعاصر .
▪️سبقت الطرق الصوفية الأحزاب في التاريخ السياسي السودانى ، من حيث الاجتماع و المشتركات و الانتشار الجغرافي و الإدارة و التمويل.
يجمع الإسلام كل الطرق الصوفية في الوقت الذي تجمع السياسة كل الأحزاب السياسية.
لا يوجد اختلاف جوهري بين الطرق الصوفية فهي تشترك في سودانيتها و إسلامها السني ، بينما توجد اختلافات جوهرية بين الأحزاب السياسية من حيث المنشأ و العقيدة و الاهداف و البرامج.
▪️واجه الاستعمار البريطاني ، اول ما واجه ، مقاومة دينية لأنه اساسا جاء ليقضي على ثورة إسلامية (المهدية) و لذلك كان بدهيا أن تكون المقاومة ذات طابع إسلامي مثل ثورة ود حبوبة في الجزيرة و ثورة السحيني في دارفور . تعددت أنواع المقاومة فكانت مقاومة ثورة ١٩٢٤ مقاومة عسكرية قادها ضباط عسكريون على عبداللطيف و رفاقه. برز مؤتمر الخريجين و هو النوع الثالث من انواع المقاومة ضد الاستعمار البريطاني بعد فشل المقاومة الدينية و العسكرية.
▪️أحرز مؤتمر الخريجين تطورا نوعيا في مقاومة المستعمر البريطاني حيث كانت المقاومة السابقة جهادية عسكرية و مقاومة مؤتمر الخريجين مدنية سياسية. وجدت مقاومة مؤتمر الخريجين ذيوعا و انتشارا واسعا داخل السودان و خارجه ، و لأنها مدنية سياسية طال امدها و لم يقابلها المستعمرون بالبطش و القوة مثلما فعلوا مع المقاومة الأولى.
امتد إثر مؤتمر الخريجين إلى ما قبل الاستقلال حيث ▪️انقسم مؤتمر الخريجين إلى واجهتين سياسيتين. واجهة تدعو للاتحاد مع مصر و تدعو الثانية الي الاستقلال التام و يعني ذلك اعتبار أن الإنجليز و المصريين كليهما اجنبي و مستعمر.
كان هذا الانقسام في الرأي اول اسفين يدق في جسد الوحدة في السودان و اول سطر في سفر الخلافات السياسية في السودان و الذي ظللنا نعاني من آثاره السلبية حتى اليوم.
▪️خرج الحكم الثنائي من السودان بالباب و ادخل الحزبية البغيضة بالشباك . صنعت المخابرات المصرية الجماعات ذات الميول المصرية و نظمتهم في واجهات سياسية و كونت منهم أحزابا (الأشقاء أو الاتحاديين _ أشقاء مصر و اتحاديين بالاتحاد مع مصر) في الوقت الذي دعمت فيه المخابرات البريطانية الجماعات المنادية بالاستقلال.
لا بد لهذا العمل السياسي المدني(تكوين الأحزاب السياسية السودانية) من حاضنة شعبية و لم يكن هناك غير الطرق الصوفية لتقوم بهذا الدور الاستراتيجي . فاتكأت كل مجموعة من مجموعتي مؤتمر الخريجين على قاعدة طائفية(الأنصار أو الختمية) . لم يستفد السودانيون من تجربة مؤتمر الخريجين في الهند الذي تطور إلى حزب سياسي قومي نال شرف تحقيق استقلال الهند و هي شبه قارة ، و صار يحكم الهند حتى اليوم.
▪️ أفلح ، إذن ، المستعمران البريطاني و المصري في زراعة الانقسام السياسي وسط السودانيين منذ ذلك التاريخ و ظل يرعاه و يتعده بالنمو و الثبات حتى هذه اللحظة .
اقتضى قرار نيل الاستقلال تكوين جسم تشريعي و إجراء انتخابات لاختيار نواب الشعب الذين يشرعون و يوافقون على الاستقلال .
تنافست أيضا أجهزة مخابرات دولتي الحكم الثنائي في دعم الأحزاب ، أو النشاط المدني الجديد ، و توجيهه و إسناده بالمال و الكوادر و البرامج فورثت الأحزاب الأولى في السودان جينا أجنبيا ظل يلازمها حتى اليوم.
خاضت أحزاب الامة( الاستقلال ) و الوطني الاتحادي و الشعب الديمقراطي(الاتحاد مع مصر) اول انتخابات تشريعية في السودان تحت رعاية الحكم الثنائي ١٩٥٣ (الجمعية التشريعية) .
▪️واضح جدا أن الصراع حول الموارد في السودان لم يبدأ بظهور الإسلام السياسي في السودان بل بدأ بوضوح في مرحلة ما قبل الاستقلال.
خطط البريطانيون لاستتباع الدولة السودانية المستقلة لهم ، بطريقة غير مباشرة ، لينضم السودان المستقل لرابطة دول الكومونويلث ، و هي رابطة الدول المستقلة عن التاج البريطاني. كم خططت مصر تباعا لاتحاد السودان مع مصر (النيل و الثروات الاخري).
▪️لم يرغب السيد عبدالرحمن المهدي في الانضمام لرابطة دول الكومونويلث و لعل ما رسخ في ذاكرته ، و هو طفل صغير، من حادث قتل شقيقيه في الشابة الخليفة محمود في جنوب الجزيرة و ملاحقته و هو طفل و محاولة اسره من البرياب حيث كان يقيم مع الشريفين الحسن ود على و عبدالله البريابي و هما من اكبر قيادات المهدية الناجين من مذبحة كرري(مقرونا بذكرى المذبحة ذاتها و تشتيت الجيش البريطاني لجيش المهدي و انتصار البريطانيين علي دولة المهدية و محاولة اقصاء العقيدة الإسلامية التي أسست عليهاالدولة المهدية كانت الدافع الأساس للسيد عبدالرحمن المهدي للتمسك بالاستقلال . دفع هذا الوعي الإسلامي الرافض للاستعمار السيد إسماعيل الأزهرى الذي لا يتبع للطريقة الختمية المربوطة عضويا بمصر إلى الدفع بمشروع الاستقلال الكامل للجمعية التشريعية . و هذا ما حدث ، فقد صوت النواب بالإجماع لصالح الاستقلال الكامل لا للانضمام لرابطة دول الكومونويلث و لاتحاد السودان مع مصر تحت التاج المصري . فاجأ هذا القرار الذكي التكتيكي الدولتين اللتين عملتا لضم السودان كل الي حيث تكون مصالحه.
▪️لم تستطع الديمقراطية في السودان النمو الطبيعي في مناخ تعدديات كثيرة و مربكة ، فدخل السودان ، منذ ذلك الوقت ، في الحلقة الجهنمية ؛ ديمقراطية هشة ثم انقلاب عسكري باطش ثم ثورة شعبية تطيح بالحكم العسكري ثم فترة تديرها حكومة انتقالية لتقام بعدها حكومة ديمقراطية تسلم الحكم لنفس الأحزاب و هكذا لمدة أكثر من ٦٦ سنة .
▪️نشات الأحزاب المؤدلجة أو الأحزاب الحديثة لتكسر هذه التراتبية و لتنشئ أحزابا مدنية حديثة على أسس فكرية واسعة. فكان ميلاد الحزب الشيوعي السودانى (الذي يستند إلى الفكر الماركسي الشيوعي المعادي للأديان و الاشتراكية الاقتصادية) و جماعة الإخوان المسلمين(التي تستند إلى الفكر الإسلامي الشامل). وفدت هذه الأحزاب إلى السودان من الشمال من مصر مع الطلاب السودانيين الذين كانو يتلقون العلم في الجامعات و المعاهد المصرية . تشترك هذه الاحزاب في أنها أحزاب صفوة وافدة و ليست أصيلة في السودان و هي أحزاب برامج شمولية و منظمة تنظيما هرميا محكما يصعب اختراقه .
نافست هذه الأحزاب التي شبت و ترعرعت في بيئة طالبة صفوية في جامعة الخرطوم و الجامعات الأخرى ثم انتقلت من أحزاب طلابية إلى أحزاب جماهيرية تسعى للسيطرة على الحكم بواسطة نواب البرلمان.
▪️نشأت أحزاب أخرى صفوية و لكن لم تكن لها جذور في تكوينات الشعب السودانى. لم تستطع أحزاب الناصريين و البعثيين و الجمهوريين تجاوز حدود الجامعات و المدن و لم يتسنى لها مغادرة حدود الجامعات السودانية القديمة جامعة الخرطوم و جامعة القاهرة فرع الخرطوم و معهد المعلمين العالي و جامعة أم درمان الإسلامية و هي ، جغرافيا ، محصورة داخل حدود مدن الخرطوم و الخرطوم بحري و ام درمان.
▪️خلقت التطورات السياسية الأممية بيئة صالحة لنمو و تطور الأحزاب الحديثة و كانت أصداء النظام السياسي الجديد تشكل الوقود المعنوي لهذه الأحزاب مثل آثار انقسام للعالم إلى معسكرين و الحرب الباردة و دعوات الاستقلال الوطني و التحرر من الاستعمار و مفهوم عدم الانحياز و الاشتراكية و الرأسمالية و الشعوبية (القومية العربية و القومية الافريقية) و دور الأمم المتحدة و التكتلات الاقليمية ( الجامعة العربية و منظمة الدول الافريقية_ الاتحاد الأفريقي فيما بعد و منظمة الدول الاسلامية) و منظمة دول عدم الانحياز و الأحزاب المنبثقة من هذه الأفكار و الايديلوجيات مثل الأحزاب الشيوعية الماركسية و القومية العربية_ الناصري و البعث والأحزاب الوطنية صانعة الاستقلال في اسيا و أفريقيا و التدافع و التنافس و الصراع بين هذه المدارس الفكرية و المذاهب الاقتصادية و ما تبع ذلك من انتشار التعليم الجامعي و انتشار الوعي السياسي الشامل و انتشار السينما و الكتب و الصحف و المجلات و الاذاعات و منظمات الأمم المتحدة. شكل كل هذا الكم الهائل المتنوع وقودا و قوة دفع عقلية جبارة ساعدت على تطور الأحزاب السياسية.
▪️للأسف لم تستفد الأحزاب التقليدية أو المحافظة أو ذات الحاضنة الطائفية من الاستفادة من هذا الكم المعرفي الهائل في الاستقطاب السياسي الكمي و النوعي بسبب انتشار الجهل بين أتباع الأحزاب التقليدية في الوقت الذي وظفته الأحزاب الحديثة توظيفا إبداعيا في السيطرة على الساحة السياسية و ابدال و اقصاء الاحزاب التقليدية.
▪️ساعدت التقلبات السياسية و الفكرية و الاقتصادية الأممية في التأثير على نمو و تطور الأحزاب السودانية سلبا و إيجابا حيث نمت و تطورت الأحزاب الحديثة و تقزمت و تكلست الأحزاب التقليدية.
استمر هذا المد و الجزر و الاستقرار و التغير يفعل و يتفاعل و يؤثر على كيمياء و جينات الأحزاب السياسية السودانية حتى اليوم. لا أحد يتنبأ بمستقبل الأحزاب السودانية التي غيبت ، الان رسميا ، بارادة نظام هجين شمولي لاديمقراطي مدني عسكري سمي نفسه نظام انتقالي و لم تظهر عليه ملامح الانتقال بل نظام ديكتاتوري بشقيه العسكري و المدني.
في مقال لاحق، أن إذن الله و قدر ، نتعرض لواقع الأحزاب السودانية اليوم و من ثم احتمالات مستقبلها القريب.

تعليقات
Loading...