شكلت تلك المواجهة العسكرية حدا فاصلا بين الحكومة الانقلابية و الجبهة الوطنية او المعارضة الحزبية العسكرية أو المتنافسين على الفوز بالسلطة في السودان .
عكف كل طرف على تحليل تلك المواجهة العسكرية الشرسة غير المتوقعة بعين النقد و التدبر و استخلاص الدروس و العبر و التخطيط المستقبلي . أدرك كل طرف مناطق القوة و مناطق الضعف عند الآخر و بدأ يخطط للمستقبل حتى لا يؤخذ علي حين غرة و لا يلدغ من الجحر مرتين .
دخل الخصمان في هدنة غير معلنة و لكنها مشحونة بالهواجس و الخوف خاصة و المتغيرات السياسية المحلية و الاقبيمية و الدولية تمور و تدور بسرعة فائقة .
بطبيعة الحال ، جمع استهداف قوى اليسار لقوى اليمين ، و تحول المعارضة إلى الحل العسكري ، و هذا نهج خطير و غير مأمون العواقب بين أطراف المعارضة و دفعها للتنسيق الجماعى .
لما كانت أهداف أحزاب المعارضة متباينة الأهداف و الوسائل . تفرقت بهم السبل و بدأ التحالف مشتت الرؤى و الاهداف.
وجد الاخوان المسلمون انهم لا يميلون إلى تكرار تجربة المواجهة العسكرية التي كانت بدايتها مواجهة الأنصار للحكومة و تزويد الشريف الحسين للمقاتلين بالسلاح من خارج السودان و اعتمادهما على دعم خارجي . أدرك الإخوان بحسهم السياسي المتقدم ان لهذا الخيار تكاليف باهظة ، بعضها معلن و الاخر غير معلن و تعني ارتباط البلاد بأطراف خارجية مما ينتقص من سيادة البلاد و ارتهان استقلالها للخارج. مقابل هذا الدعم . يضاف إلى ذلك سبب آخر مهم جدا هو أن الإخوان ليس لهم عداء استراتيجي مع أي اتجاه سياسى غير الشيوعيين . و لذلك واجهوا نظام نميري لأنه تبنى سياسة الحزب الشيوعي باستهداف وجود الحركة الإسلامية و التضييق عليها و استئصال شأفتها انتقاما و ثأرا لأنها، الحركة الإسلامية، كانت السبب الرئيس في حل الحزب الشيوعي .
لعب تهور الحزب الشيوعي و غروره و غدره بالنميري و الانقلاب الفاشل عليه دورا حاسما في تغيير استراتيجية الجبهة الوطنية من المواجهة العسكرية إلى الخيار السلمي و الحوار و التفاوض و ترجيح خيار السلام و التصالح للخروج بالوطن من عنق الزجاجة . يدرك الإخوان المسلمون ان خيار السلام و نبذ العنف طريق شاق و مكلف و طويل و ملغوم و لكنه كان خيارهم الإستراتيجي لحقن الدماء و صيانة المورد و سد الأبواب أمام التدخل الخارجي الإقليمي و الدولي و الحيلولة دون اﻹنقسام الداخلي .
بادر الإخوان المسلمون بإلقاء هذا الحجر لتحريك البركة السياسية الساكنة و تحريك الجمود الفكري السائد . شأن معقد كهذا ، لا يقدر عليه ،بحسب مراقبين محايدين ، سوى الإخوان المسلمين .
لم يكن من السهل أن ينسى الأنصار مذبحتي ودنوباوي و الجزيرة ابا و دماء و أشلاء الأنصار و اغتيال الإمام الهادي و التشريد والكراهية لكي يقدموا على خطوة كبيرة مثل هذه الخطوة و لم يكن بامكانهم تقديم كل هذه التضحيات مهرا لسلام مستحيل أو مشكوك فيه .
و كذلك لم يكن من السهل على الاتحاديين نسيان إذلال الشيوعيين للزعيم الأزهري الزعيم التاريخى و احد آباء الإستقلال و الزج به في غياهب السجن دون مراعاة لمقداره و مكاتته عند السودانيين ، ليس ذلك فحسب بل امعانا في احتقاره منعوه من المشاركة في تشييع جنازة شقيقة على الأزهري. تسبب ذلك الموقف اللإانساني في إصابة الزعيم بجلطة عجلت برحيله و منعت السلطات إجراء مراسم تشييع تليق به بل حتى عندما نعوه فى الاذاعه سلبوه زعامته و عرفوه بأنه السيد إسماعيل الأزهري المعلم السابق . يضاف إلى كل ذلك العداء التاريخى بين الشريف الحسين و العسكر .
غلٌب الإخوان المسلمون العقل و تبنوا منهج التسامح و التصالح حماية للوطن من الارتهان للخارج . طرحوا مشروع المصالحة الوطنية بينهم اولا كحزب سياسي ثم عرضوه علي المعارضة فيما بعد.كمشروع للحوار للحفاظ على الوطن .
اتخذ النظام العسكري الشيوعي من البطش والترويع سلاحا لإسكات المعارضة و إرهابها إخماد جذوتها . استهدف النظام الصفين القياديين الأول و الثاني بالاعتقال التحفظي و السجن و الفصل من الوظائف المدنية العليا. كانت النتيجة شل الحراك السياسي و ابطائه لوجود الزعامات اما مسجونة بالداخل أو منفية في الخارج . اُدخل الدكتور حسن الترابي سجن كوبر و غادرت معظم القيادات الاخوانية إلى المهاجر الخليجية و الأوربية و امريكا .
انقسم الإخوان المسلمون ، و هم مبتدروا خيار المصالحة ، إلى مؤيدين (د َ. الترابي ) و معارضين ( الشيخ صادق عبدالله عبدالماجد) . كانت الغلبة لصف د. حسن الترابي . لم يعانى حزب الأمة من إنقسام لأن الحزب تقليدي رأيه عند رئيسه السيد الصادق المهدي في حين أنه لا يوجد اتحادي ديمقراطي يمكنه التعايش مع العسكرتاريا، خاصة و الشريفان الحسين و زين العابدين على قيادة الحزب.
توزع الإخوان المسلمون المعارضون السلميون بين الداخل معارضي الداخل و من أنشطهم طلاب الجامعات و برز منهم رؤساء اتحاد طلاب جامعة الخرطوم على عثمان محمد طه و احمد عثمان المكي و معارضي الخارج و الذين تمركزوا في بريطانيا و اشتهر منهم عثمان خالد مضوي و إبراهيم السنوسي و ربيع حسن أحمد و محمد أحمد الفضل دقشم و الزبير بشير طه و محمد عبدالله جارالنبي وتاج السر مصطفي .
كان التنسيق يجري على قدم و ساق بين اخوان الداخل و اخوان الخارج بالتواصل الماكوكي المباشر بين الأفراد و عن طريق الرسائل . يتبادل الفريقان الخطط و البرامج و التقارير و الآراء حول الطرح الجديد و مآلاته و مكاسبه ومعوقاته وسلبياته والتنسيق مع الحزبين المعارضين الأمة و الاتحادي الديمقراطى .
صار شأن المعارضة السلمية في هذه المرحلة شأنا داخليا صرفا و لم يعد هناك تنسيق رسمى مع حكومات ليبيا و اثيوبيا أو المملكة العربية السعودية بالرغم من استمرار القليل من العلاقات الودية بين الحزبين التقليديين و هذه الدول .
كانت خطوات مشروع التصالح مع الحكومة تتم في تكتم و سرية تقتضيها المرحلة.
تمكن النظام العسكري في هذه الفترة تثبيت قواعده السياسية والتشريعية
والإعلامية بعيدا عن الهيمنة الشيوعية الإنتهازية مثل إنشاء الإتحاد الإشتراكي حزب الحكومة . كما نشط إقتصاديا بتشجيع الإستثمار بقطاعيه الخاص و العام بعد تخلصه من الحزب الشيوعي السوداني وكفاه الله شر معارضة الجبهة الوطنية المعسكرة طويلة النفس . حقق النظام نجاحا في الإقتصاد بعد تخلصه من الشيوعيين دعاة اقتصاد الدولة الموجه و التأميم و المصادرة.
لم يكن هناك تسلط شيوعي مباشر و لم تبق من المشاكل المعلقة والموروثة الا مشكلة الجنوب.