عثمان الشيخ يكتب:قنبلة مناهج التعليم البريطاني.(2-2)

الخرطوم :مرايا برس

أنشأ الحكم العسكري الأول ( الفريق إبراهيم عبود) معهد الخرطوم الفني و معهد المعلمين العالي في أم درمان. آخر المؤسسات التعليمية أنشأتها الحكومة بعد ثورة أكتوبر الجامعة الإسلامية في أم درمان وأضاف الرئيس نميري جامعة جوبا و جامعة الجزيرة.

نجح التلميذ الطاهر في إمتحان الشهادة السودانية و التحق بجامعة الخرطوم و تخرج ليعمل موظفا مميزا ( خريج) لتلقي كل امتيازات الموظف الخريج و منها الإبتعاث للتخصص في الخارج.

قضى الطاهر ستة عشرة سنة( ١٧ أو ١٨ في حالات البيطرية و الزراعة و القانون و الطب)  يقيم و يتعلم و يتعالج و يترفه على حساب الحكومة و في هذا تمييز على غيره من بقية المواطنين في سنه.

تتفتح أذهان الطلاب لاستقبال العمل السياسي في الثانوي والجامعة فتسعى الأحزاب و التنظيمات السياسية لإستقطاب الطلاب النشطاء ليكونوا كوادرها في سعيها المحموم للسلطة .

نشأ الطاهر في بيت ختمي نشأ على الفطرة السليمة فاستقطبه الإخوان المسلمون.

تخرج الطاهر و تقدم للعمل في وزارة الخارجية فاجتاز كل الإختبارات التحريرية و المعاينات بنجاح و تفوق لكن فصلته وزارة الخارجية في عهد النميري بإيعاز من زملائه الشيوعيين بحجة أنه اخ مسلم.

استعدت الحكومة الشيوعية الخريج المتميز الطاهر و حرمته من سداد دين وطنه عليه و خدمة وطنه الذي أنفق عليه على حساب غيره ، ليس ذلك فحسب بل خلقت منه معارضا رافضا للنظام العسكري.

سُدت أبواب الرزق أمام الطاهر فالتحق بخدمة شركة سودانية هاجر بعدها خارج السودان ليعمل لصالح غيره.

مر علي بنفس المراحل المعهد العلمي الأوسط ثم الثانوي ثم جامعة القاهرة فرع الخرطوم أو جامعة أم درمان الإسلامية و كان اقرب الى الإخوان المسلمين و لم يجد فرصة في السودان فاغترب.

 مر الخريجون اليساريون بنفس الإبتلاءات حين تحول الحكم و السلطة لصالح الإسلاميين.

احترف الجميع السياسة التي بدأت بمؤتمر الخريجين الداعي لإستقلال البلاد و انقسم الخريجون إلى حزبين مؤيدي إستقلال السودان(الأمة) ومؤيدي الوحدة مع مصر تحت التاج المصري(الإتحاديين)

اضطر الزعماء السياسيين إلى التحالف مع الطائفية طلبا للشعبية والقاعدة الجماهيرية فذهب مؤيدوا الإستقلال إلى طائفة الأنصار ومؤيدوا الوحدة مع مصر إلى طائفة الختمية.

الملاحظ أن الأحزاب السياسية السودانية التقليدية والحديثة لم تنشأ نشأة طبيعية كالأحزاب الأوروبية بل نشأت نشأة  غير طبيعية لطرد الإستعمار ونيل الاستقلال.

ربما بالصدفة وجد المتعلمون الخريجون أنفسهم على رأس هذه التنظيمات السياسية وكان الهدف سياسيا بحتا وهو إخراج المستعمر و حل محله في السلطة والحكم و الإدارة مجرد عملية ابدال وإحلال.أغفلت الأحزاب السودانية الأهداف العليا مثل الوحدة الوطنية والتنمية الإقتصادية وإستغلال الموارد و بناء الإستقلال الحقيقي و العدل وكتابة الدستور الدائم ومنع الصراعات والحروبات الأهلية المدمرة وحرية الرأي والفكر وانشغلت بمن يحكم منفردا أو مؤتلفا ، عسكريا أو مدنيا ، إسلاميا أو علمانيا.

ما نعانيه الآن هو نتيجة لورثتنا منهج التعليم البريطانى الإستعماري الذي صُمم لينتج موظفين مدنيين ينالون الإمتيازات الفئوية تحولوا إلى قيادات حزبية سياسية همها وراثة المستعمر والحكم بدلا عنه.

يمثل الطاهر وعلي غالبية سكان السودان الحديث نموا لسكان المدن التي تستنزف ٩٠٪ من موارد السودان على حساب بقية مواطني السودان في ٩٠٪ من مساحته.

ساكنوا المدن مجموعة مستهلِكة وغير منتجة تعيش على حساب الريف المنتج والمهمَل و من هنا تأتي المفارقات و الفوارق و الأحقاد والتوترات  والحروبات خدمة لغير السودان والسودانيين .

نعم ورثنا الحكم من المستعمر بعد إرغامه على الخروج من بلادنا وللأسف الشديد ورثنا ما أقامه المستعمر من بنيات أساسية وأنظمة سياسية  وإجتماعية و لم نرث منه روح التخطيط و البناء والإنتاج والتنمية والوحدة الوطنية والتعايش وابتلعنا الطعم المسموم الذي غرسه الإستعمار مبكرا فينا لنجني كلنا اليوم ثماره المرة خرج الإستعمار وترك فينا قابلية الإستعمار بربطنا بمنهجه التعليمي الذي يركز على الوظيفة  وامتيازاتها لا إعمار الأرض و إستثمار مواردها لخدمة جميع المواطنين. ورثنا منه تمييز المحظوظين و إهمال الأغلبية المنتجة.

سنظل نعاني من هذه الجرثومة السرطانية التي زرعها الإستعمار البريطاني في عقول الذين علمهم و دربهم  ليخدموه ماضيا وحاضرا.

ما نعانيه اليوم من عجز عن أن نحكم أنفسنا والتشرذم الحزبي والتكتل العنصري و الكسل والخمول  والتدهور الإقتصادي. الصراعات السياسية العدمية علاجها في الجلوس معا كل المكونات السياسية و الحوار البناء لبناء وطن يضم كل سكانه و يسعى لاستغلال موارده لصالح أهله و مواطنيه لا لصالح المستعمر بالوكالة. و ليعودا الطاهر وعلي إلى مواطنهما الريفية ليحدثا فيها التنمية الحضرية بنفس الحماس الذي بذلاه في الإغتراب أو العودة لرحاب الوطن. ليس هذا بالهدف المستحيل لكنه صعب لأنه يتطلب التجرد و الإرادة القوية والصبر والجلد  والتضحية بالرفاهية و نمط العيش في المدينة المستهلكة الطاردة وغير الآمنة إلى الريف البسيط المنتج المعافى و الآمن  والمتسامح.

هل يتبنى عقلاء وحكماء  وخبراء السودان هذا الطرح القديم المتجدد؟.

تعليقات
Loading...