عثمان الشيخ يكتب :المصالحة الوطنية، خبايا وأسرار 1

تداعيات:مرايا برس

أضيف هذا المصطلح إلى قاموس المصطلحات السياسية السودانية في النصف الثاني من القرن الماضي .

ربما تكون المصالحة الوطنية أكبر وأهم حدث سياسي محلي ، و ربما إقليمي أيضا ، في تلك الفترة.

استولت  مجموعة من  العسكريين تحت مسمى الضباط الأحرار ، و هو  تنظيم سياسى داخل الجيش السوداني على السلطة بإنقلاب عسكري، مقتدين بتجربة تنظيم الضباط الأحرار في مصر ، إنقلاب البكباشي جمال عبد الناصر في يوليو ١٩٥٢ ،  قاد الإنقلاب العسكري العقيد جعفر محمد نميري في ٢٥ مايو ١٩٦٩ .

يعتبر هذا الإنقلاب الثاني في السودان بعد إنقلاب الفريق إبراهيم عبود في نوفمبر ١٩٥٩ .

يقتضي الإنقلاب العسكري إلغاء الدستور و حل الجمعية التأسيسية و حل الأحزاب السياسية وإيقاف الصحف وفرض قانون الطوارئ .

من المفارقات الصارخة أن يؤيد الحزب الشيوعي السوداني الإنقلاب على الديمقراطية و هو الذي يدعي انها في مقدمة برنامجه السياسي والانتخابي . أقرب تفسير لهذا التناقض الفكري ، هو انتهازية الحزب الشيوعي السوداني و عقيدته السياسية (الغاية تبرر الوسيلة ).  المبرر الآخر هو  ثاره وانتقامه من الشعب السوداني والأحزاب الوطنية التي أقرت بالأغلبية حله وطرد نوابه من البرلمان و تحريم و تجريم كل نشاطاته ، ولما واتت فرصة الثأر والإنتقام من هذا الشعب ، اقتنصها الحزب الشيوعي مساندا الإنقلاب عليها و هو الذي لعب دور عراب ثورة مايو .

انقسم المجتمع السياسي السوداني إلى مؤيدين للإنقلاب المايوي ( الثوري) و هم القوميون العرب ( الناصريون ) و الحزب الشيوعي السوداني و حزب البعث العربي الاشتراكي و الحزب الشيوعي الصيني و الجمهوريون .

عارض الإنقلاب الحزبان المؤتلفان الحاكمان قبل الانقلاب و هما حزب الأمة و الحزب الاتحادي الديمقراطي (المكون من الإتحاديين اتباع الرئيس الأزهري و الختمية أو حزب الشعب الديمقراطي بزعامة الشيخ علي عبدالرحمن الأمين ، و طائفة الهندية اتباع الشريف يوسف الهندى و يتزعمهم الشريف حسين الهندى وزير المالية قبل الانقلاب) و الاخوان المسلمون بقيادة  الدكتور حسن عبدالله الترابي .

ساندت جماهير الشعب السودانى الانقلاب لخيبة أملهم في رشد الأحزاب التقليدية التي تهتم بمصالحها و لا تهتم بمصالح الشعب. بالإضافة إلى سيطرة إعلام و تنظيم و اعلام الحزب الشيوعي السوداني و سيطرته على الراي العام .

واجه الانقلابيون العسكريون معارضه  الأحزاب بصرامة و بطش شديدين فاغلقوا دورهم و أوقفوا صحفهم و صادروا مطابعم و اودعوا زعمائهم السجون و المعتقلات .

قابل المعارضون هذا البطش بسلاح المنشورات و المقاومة السلمية التي سرعان ما تحولت إلى مواجهة مسلحة بين الانصار و الانقلابيين فى مجزرتي ود نوباوي و الجزيرة ابا و التى استعمل فيها الانقلابيون الرصاص لردع معارضة الأنصار في المعركتين حيث تكبد  الأنصار و الانقلابيون خسائر بشرية  كثيرة . لم يترك الإخوان المسلمون  الأنصار يواجهون البطش الشيوعي العسكرى الحاقد لوحدهم بل قاتلوا معهم كتفا بكتف تطوعا دون أن يوجه لهم الأنصار دعوة للقتال معهم بل دفعتهم روح  العقيدة و المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا . ابرزت معركة الجزيرة ابا مهارات الإخوان القتالية و التخطيط و التكتيك العسكري و هم مجموعة مدنية. تقدمهم  الشهيد محمد صالح عمر المحاضر بكلية القانون جامعة الخرطوم الذى استشهد قبل الإمام الهادي المهدى وكما وقع في الأسر الشيخ محمد محمد صادق الكاروري المعلم بالمعاهد الدينية آنذاك و فلت من الأسر  بعد أدائه مهمته القتالية الهجومية منسحبا من ميدان المعركة  بأعجوبة خارقة الأستاذ مهدى إبراهيم محمد ، سفير السودان فيما بعد في الولايات المتحدة الأمريكية .

انتقل الصراع من المعارضة السلمية إلى المواجهة المسلحة فتكونت المعارضة المسلحة الرسمية تحت مسمى الجبهة الوطنية التي تضم حزب الأمة بقيادة السيد الصادق المهدي و الاتحاديين (الحتمية خارج التحالف المعارض لأنهم يؤيدون الانقلاب) بقيادة الشريف الحسين الهندى و الاخوان المسلمين بزعامة الدكتور حسن الترابي .

يشار إلى أن الشريف حسين الهندى زعيم الاتحاديين اختار المقاومة المسلحة مبكرا و مباشرة بعد الانقلاب و هاجر إلى إثيوبيا محتميا بالامبراطور هيلاسلاسي الذى يحفظ لأسرة الشريف يوسف الهندى شرف و فضل ايوائه و حمايته عندما هرب من إثيوبيا بعد الاحتلال الإيطالى الاستعماري لإثيوبيا محتميا بالشريف يوسف الذي وفر له الحماية و الأمن .

عرف الشريف الحسين بخبرته فى تجارة الأسلحة و الذخائر  و التى استفاد منها كثيرا .

عمد الشريف الحسين مبكرا إلى تجييش المعارضين ففتح معسكرات تدريب المعارضين على القتال تحت سمع و بصر و موافقة الحكومة الإثيوبية التى تعادي الشيوعيين .

حين فاضت السجون بالمعارضين من الاخوان و حزب الأمة و الاتحاديين ، التحق متطوعوا حزبي الأمة و الاخوان المسلمين بمتطوعي الاتحاديين باثيوبيا بعد اقتناعهما التام     بلاجدوى المعارضة السلمية . كونت الجبهة الوطنية نواة جيش المقاومة فى معسكرات داخل الأراضى الإثيوبية .

وسعت الجبهة الوطنية قواعدها خارج الحدود السودانية فأسست لها مراكز فى المملكة العربية السعودية و الجماهيرية الليبية العربية الاشتراكية و المملكة المتحدة بالإضافة إلى المركز الأول فى إثيوبيا.

كان لكل مركز ميزاته و افضلياته من حيث توفير متطلبات المعارضة اللوجستية و العسكرية و الإعلامية .

توفر إثيوبيا الحماية المعنوية و الأمنية و معسكرات التدريب بالقرب من الحدود السودانية ذات التضاريس الطبيعية المتشابهة ، بينما يوفر مركز المملكة العربية السعودية كثافة حركة و تواصل الأفراد في مواسم الحج و العمرة و سهولة جمع الأموال و حركتها إلى بقية المراكز  ، في الوقت الذى يوفر فيه مركز ليبيا التدريب و التمويل و القرب الجغرافي من أوروبا و امريكا . يوفر مركز بريطانيا الإعلام الخارجى لوجود إذاعة ال BBC  القسم العربى الذى يوفر منصة إعلامية ضرورية للمعارضة بالإضافة إلى عامل مهم جدا و هو وجود أكبر تجمع لعناصر المعارضة من المتعلمين و مبعوثي الدراسات العليا فى جامعات المملكة المتحدة و ينسب إلى هولاء فضل   التخطيط و الإسناد العلميين و سهولة توصيل الرسالة الإعلامية و الاتصال بجميع مظان الدعم المعنوي والإعلامي من حيث يسر التواصل مع منظمات حقوق الإنسان والمؤسسات الأكاديمية والبعثات الدبلوماسية وغيرها .

وجد النظام الحاكم نفسه في مواجهة معارضة شرسة مصممة على إبعاده وإستعادة الديمقراطية. كما فوجئ النظام العسكرى بمعارضة ليست تقليدية كالتي واجهها وانتصر عليها في الجزيرة أبا وود نوباوي . تتميز هذه المعارضة بعقول تنظيمية ذات مستوىً فكري وتخطيطي متقدم (طلاب الدراسات العليا) و موارد تمويلية ضخمة وإعلاميين و منصات إعلامية مؤثرة و سند معنوي هائل ( إسلامية ضد شيوعية) و قوة بشرية مدربة تدريبا قتاليا جيدا وبروح جهادية حقيقية الأنصار والأخوان المسلمين.

بدأ كل فريق يعد العدة لمعركة فاصلة ، معركة حياة أو موت. كان كل فريق يعد نفسه للمواجهة العسكرية لإنهاء الصراع السياسي لصالحه بضربة واحدة .

تحركت قوات الجبهة الوطنية في سرية تامة من واحة الكفرة الصحراوية  عبر الصحراء  الكبرى عبر مسالك شديدة الوعورة ، و بيئة بالغة القسوة ، على متن محركات ناقلة تقليدية و ليست  عسكرية .

إستطاعت هذه القوة العسكرية الوصول إلى مشارف الولاية من الشمال الغربى ،وتجمعت في منطقة جبال كرري مما أتاح لقوات الحكومة العسكرية اكتشافها و الهجوم عليها و التغلب عليها.

فقدت المعارضة أو الجبهة الوطنية زمام المبادرة العسكرية نتيجة لأخطاء سياسية وإدارية ولوجستية وإستخباراتية قاتلة ، أدت إلى خسارتها عسكرياً ،معنويا ،ماديا، بشريا وسياسيا .

وظف النظام هذه المعركة و هذا الحدث التاريخي أقصى توظيف لرفع معنوياته محليا،إقليميا  ،عالميا وإعلاميا.

أطلق إعلام الحكومة العسكرية مصطلح غزو المرتزقة و الغزو الليبى ليصطاد عصفورين بحجر ؛ توريط النظام الليبي و إتهامه ، زورا ، بالتدخل فى الشؤون السودانية الداخلية من جانب ، و إظهار المعارضة بأنها لا تملك قوة قتالية بشرية لمنازلة الحكومة وزعمت الحكومة أن المعارضة لجأت  لإستئجار المرتزقة الأفارقة لقتال الحكومة بندقية مستأجرة.

تعليقات
Loading...