عثمان الشيخ يكتب :بعض آثار ونتائج مناهج التعليم البريطاني السالبة١

الخرطوم :مرايا برس

-العقيدة…
كان غالبية السودانيين مسلمين سنة يؤدون شعائر الإسلام من صلاة و صيام و زكاة و حج و سائر القربات باخيارهم بلا وساطة و لا وصاية .
يمارس الناس في المناطق النائية التي لم يصلها نور الإسلام طقوسهم الوثنية آمنين مثل إخوانهم في بقية البلاد .
دخل المستعمر السودان و معة ديانته و عقائده المسيحية بمذاهبها و طوائفها المختلفة بروتستانت و كاثوليك و اورثوذوكس. انتشرت الكنائس في السودان عامة و في الجنوب و غرب كردفان خاصة بتشجيع من المستعمر . ظهر التمييز الحضاري في دعم المستعمر المادى للكنائس و اهمالها المتعمد للمساجد . أوكلت حكومة المستعمر البريطانى ، بذكاء شديد ، تشييد الكنائس و تأثيثها مدها بالكوادر البشرىة المدربة و الميزانيات الضخمة إلى المنظمات الكنسية التبشيرية الأجنبية المقتدرة ماليا و ماديا فجاء معمار الكنائس و اثاثاتها و قسيسوها و رهبانها قمة في الجمال و آية في الكمال و الإمكانات و الوسائل و المعينات و الكوادر البشرية و المظهر ، ترغيبا فى الديانة المسيحية. تعمدت حكومة المستعمر اهمال بيوت الله ، مساجد المسلمين و زواياهم و خلاواهم و أوكلت تشييدها و تأثيثها للمواطنين الفقراء فكانت في غاية التواضع و قمة في الرثاثة و فقر الإمكانات بالمقارنة مع الكنائس و هذا ضرب من الخداع و التحايل النفسي للمقارنة بين الديانتين و محتويتهما المادية و سيلة ماكرة لمحاربة الإسلام و نشر المسيحية وسط المسلمين و غير المسلمين باغراء البسطاء . كانت هذه أول الثنائيات الضارة ؛ سوداني مسلم مقابل سوداني مسيحى و هي أكبر عوامل هدم الوحدة الوطنية : اختلاف العقيدة الذى تحول إلى حرب ضروس بين الشمال العربى (المسلم) و (الجنوب الزنجي المسيحى) ، الحرب التي استمرت نصف قرن تأكل الأخضر و اليابس و تنشر الدمار و الخراب العمراني و تعطل التنمية و تهلك الحرث و النسل و تضرم الشحناء و البغضاء بين مواطني القطر الواحد حتى انفصل الجنوب عن الشمال فانقسم الوطن الواحد إلى وطنين.
لا ينكر الا مكابر أثر الحرب على الوحدة و التنمية.
امتدت العلاقات الإنسانية الطبيعية بين شمال السودان الجغرافي و جنوبه و توصلت و تعمقت بطريقة عفوية سلمية عن طريق التجارة و الزراعة و الرعي و انتشر الإسلام بالتمازج العفوي و الأنصهار البشرى و القدوة و التقليد و الدعوة و الهداية السلمية . تأثر المواطن الزنجي المقيم بالوافد في عقيدته و تقاليده و تفاصيل حياته و ثقافته و عقيدته ، فانتشر الإسلام و اللغة العربية الدارجة انتشارا عفويا سلميا لتصير اللغة العربية الدارجة هى لغة التخاطب بين الوافد و المحلى و حتى بين المحلى متعدد اللهجات (عربى جوبا)
٢/التعليم
كان السودانيون يعتمدون على الخلوة و المسيد في التعليم و هما مؤسستان أهليتان طوعيتان تعلمان الطلاب(الحيران) القرآن و القراءة و الكتابة و العبادات و أساسيات الفقه عن طريق التلقين و هو أفضل و انجع وسائل التعليم بوسائل تعليمية محلية غير مكلفة و يصنعها الحيران من المواد المحلية مثل اللوح ( الخشبي) و الدواية(من الطين المحروق) و الحبر (العمار من الكربون المتراكم على اسطح أواني الطبخ الفخارية الخارجية يضاف اليه الماء و الصمغ العربي) و أقلام البوص من سيقان قصب الذرة.
تعمدت الإدارة الاستعمارية إهمال التعليم المحلي (القرآني) و لم تخطط لتطوير مناهجه و وسائله و مبانيه و كوادره البشرية بل استبدلته عمدا بتعليم المستعمر و وسائله لحاجة فى نفس الاستعمار .
كان هدف المستعمر من التعليم المستورد خلق طبقة من الموظفين المحليين لمساعدته في تنفيذ مخططاته ( كادر محلى) ، فانشأ المدرسة الأولية بمعمارها الحديث و اثاثها و وسائل التعليم و المعلم و المناهج و الكتاب و الكراس و لوح و قلم الاردواز و جدول الحصص و السبورة و الطباشير و البشاورة و الجرس و الحساب و الجغرافيا و التاريخ و الجمباز و الأناشيد …. الخ في عملية أدلجة اختراقية واضحة و إحلال و ابدال قديم تقليدي بحديث عصري، الخلوة بالمدرسة و العربي بالاوروبي و اللغة العربية باللغة الإنجليزية و البلدي بالافرنجي و الإسلامي بالمسيحي .
كان هدف التعليم القرآني إخراج المتعلم من الأمية إلى المعرفة و فهم الإسلام الحقيقة و الشريعة و هدف التعليم الاستعماري صناعة كادر إداري مساعد مشرب بروح الاستعمار و ثقافته بدون الاهتمام بالعقيدة الموروثة.
توسعت حكومة الاستعمار البريطاني ، بدوافع أحكام السيطرة الإدارية على السودان مترامي الأطراف متعدد الاعراق و المناخات و القبائل و الأديان ، إلى الاستعانة بكوادر من مصر و بلاد الشام للاستعانة بهم في تسيير دولاب الإدارة و الحكومة من الذين يتقنون اللغتين العربية و الإنجليزية بتركيز على المسيحيين.
اضطرت الإدارة البريطانية و لدوافع تخفيض كلفة الإدارة لتعليم كوادر سودانية قليلة التكلفة ، فاضطرت للتوسع في التعليم المدني في عوصم المديريات.
٣/ الطبقية
عاش السودانيون قبل الاستعمار البريطاني في سلام مجتمعي متكافل و متراحم و متعاون لا فرق بين الغني و الفقير الا في بعض المظاهر الهامشية. يعتمد السودانيون فى الحضر و البادية في معاشهم على الزراعة و الرعي و التجارة و بعض الحرف المحلية.
نشأت طبقة جديدة فى المدن و الحواضر هى طبقة الموظفين المتعلمين(الأفندية) و هم الذين تستخدمهم الحكومة فى تسيير دولاب الإدارة من معلمين و كتبة و محاسبين و متعاونين صغار و غيرهم. يتلقى هؤلاء رواتب و امتيازات من الحكومة.
انقسم المجتمع تلقائيا إلى متعلمين و غير متعلمين. لكل طبقة سماتها و مميزاتها. اتسعت الشقة بين الطبقتين خاصة بعد التوسع في التعليم المتوسط و الثانوي و فوق الثانوي و ازداد عدد طبقة المتعلمين و امتيازاتهم على حساب غيرهم من المواطنين. اعتمدت الحكومة البريطانية على هذه الطبقة فى تمكين ثقافتها الاستعمارية و تمرير سياساتها الإدارية و الإقتصادية و القانونية ليصير السودان بكامله شماله و جنوبه دولة مستعمَرة بمعنى الاستعمار (Colonization) و جميع مواطنيه مستعمَرين.
ظلت طبقة المتعلمين تعتمد على الراتب الحكومي الدائم في حين يعتمد بقية المواطنين و هم الأغلبية على الدخل المحدود من الحرف البسيطة و التجارة المحدودة في المدن في الوقت الذي يعتمد سكان الريف على الزراعة و الرعي و الحرف و التجارة.
تكونت طبقات الموظفين و العمال و المزارعين و صغار التجار نتيجة لمتطلبات الاستعمار و منهجه الرامي إلى تخريج مساعدين له.
تطورت الحاجة إلى متخصصين مثل العسكريين و الشرطة و الأطباء و المهندسين و المعلمين و الإداريين و الزراعيين و البياطرة والقانونيين و الإقتصاديين والمحاسبين و الصيادلة وغيرهم من خريجي التعليم فوق الثانوي و الجامعي
أنتج التطور التعليمي و الثقافى و الوعي الوطني شعورا معاديا للاستعمار و راغبا في طرده و كان على رأس هؤلاء الخريجون . نشأت بناءا على ذلك و نتيجة له طبقة جديدة هي طبقة (السياسيين)، ابتداءً بمؤتمر الخريجين و انتهاءاً بالأحزاب السياسية التقليدية التي ارتكزت على الطائفية و الإدارة الأهلية.
واجهت الحكومة البريطانية صعوبات جمة في حكم السودان و السيطرة عليه إذ انقلبت الطبقة المتعلمة التي صنعها و سخر لها مناهجه و إمكاناته المادية و الفنية لتدجينها و الإعتماد عليها في تسيير نشاطات الحكم و الإدارة و الخدمات وإستغلال الموارد إلى طبقة متمردة عليه مطالبة باخراجه من البلاد ليحكم السودان أهله و مواطنوه.
وظف الخريجون ثقافة الديمقراطية و الاستقلال لمقاومة الإستعمار الذي لجأ للبطش و العقاب لردعهم و مجابهة خطرهم المتنامي فلجأ إلى الذين اهملهم من سكان البادية و الإدارة الأهلية ليستنصر بهم ضد بني جلدتهم و ليضرب السودانيين بعضهم بعضا بتوظيف سياسة فرِّق تسُد Divide and rule
الاستعمارية فانشأ الجمعية التشريعية ليناهض بها أفكار مؤتمر الخريجين الإستقلالية.
تطورت مقاومة الأحزاب و استطاع خريجوا السودان قيادة التحرر و نيل الاستقلال حتى نالوه في أول يناير ١٩٥٦.
زرع الإستعمار البريطاني جرثومة الصراع السياسي و القبلي و القابلية للإستعمار و الضعف و التخلف بتكريس الإختلاف و التشرزم والتقاتل بنفس وسيلة تكريس و تمكين الإستعمار .
استطاع الاستعمار أن يحول طاقة مقاومة الاستعمار إلى طاقة انقسام و صراع داخلي.
تمحور الصراع الداخلي في حزبين حولا طاقة التعاون البناء إلى طاقة صراع هدام. تحول شعار الاستقلال من التفكير الإيجابي الخلاق كيف يحكم السودان؟ و كيفية توظيف موارده الضخمة التي كان يستنزفها الاستعمار لصالح مواطنيه و رفاهيته؟ إلى طاقة سلبية : من يحكم السودان؟ الصراع الذي مازال مستعرا حتى اليوم و ربما الغد القريب الا ان تتداركنا رحمة الله.
تفرق السودانيون إلى شعوب، قبائل، أحزاب، طوائف، مذاهب، أقاليم، مدنيين، عسكريين، علمانيين ومسلمين ، يتنافس الكل متخندقين وراء هذه الشعارات و اللافتات همهم الكراسي لا التنمية و الوحدة و امن و رفاه المواطن المغلوب على أمره .
أنتج الصراع السياسي أحزابا بدأت بحزبين و انتهت إلى أحزاب تتناسل و تتوالد بلا نهاية. الكل ضد الكل و الجميع ضد الوطن و المواطن و النتيجة الأوجاع و الأوضاع التي نعانيها جميعنا اليوم.
اشمت متعلمونا فينا المستعمر و لسان حاله يقول : كنتم في سلام و رغد عيش و رفاهية و وفرة تحت رعايتي و تقاتلتم و تمزقتم و تخلفتم و ضعفتم و بددتم مواردكم الطبيعية و اهدرتم ثرواتكم فلستم جديرين بها و لا بالاستقلال ، بل نحن أولى بها منكم، و لكن تحت ستار الأمم المتحدة و قوانينها و منظماتها و كوادرها العسكرية و المدنية.
دخل علينا الإستعمار بالباب عن طريق الغلبة العسكرية و المدنية و اخرجناه بالمقاومة و السياسة بالباب الذي دخل منه. لم نوظف فترة الإستقلال للبناء القومي فاختلفنا و ضعفنا فها هو الإستعمار يدخل علينا بالشباك ليذيقنا حنظله المتجدد.
للمقال بقية بإذن الله تعالى و توفيقه.

تعليقات
Loading...