عثمان الشيخ يكتب :17 نوفمبر أحداث وعبر.

تداعيات:مرايا برس

١٧ نوفمبر ١٩٥٨

——————-

في مثل هذا اليوم ١٧ نوفمبر شهد السودان حدثا سياسيا خطيرا، حيث مرت من السنين اثنان و خمسون سنة  على أول انقلاب عسكرى وأد ديمقراطية السودان الوليدة .

فوجئ السودانيون صبيحة يوم الاثنين الموافق ١٧ نوفمبر ١٩٥٨ بالانقلاب العسكري على أول حكومة ديمقراطية لم يمض من عمرها الافتراضي أكثر من عامين و عشرة أشهر و ستة عشرة من الايام .

توقفت الحياة المدنية ، فى ذلك اليوم الاستثنائي ،  فى شوارع العاصمة و صدحت المارشات العسكرية من راديو ام درمان الوسيلة الإعلامية الرسمية الوحيدة وقتذاك .

انتشرت المدرعات و المركبات العسكرية و حاملات الجنود فى زى الاستعداد للقتال (لبس خمسة) تجوب شوارع العاصمة المثلثة  الرئيسية ، الخالية من حركة السير ، فى استعراض عسكرى صامت مهيب  .

عُرف السودانيون بولعهم بالجدل السياسى منذ وقت مبكر .

ادرك السودانيون من بيان الانقلاب العسكرى الأول تعطيل العمل بالدستور المؤقت و حل مجلسى السيادة و الوزراء و حل البرلمان و تحريم نشاط الأحزاب السياسية و ايقاف صدور و توزيع الصحف و تعطيل الحياة الدستورية فى البلاد و اعلان قانون الطوارئ .

علم السودانيون أن بلادهم تحولت تحولا سياسيا مفاجئاً من النظام الدستورى الذيمقراطي إلى الحكم العسكرى الشمولي الدكتاتوري و ربما كانوا الدولة الثالثة التي يحكمها العسكر بعد سوريا و مصر .

برز اسم الفريق ابراهيم عبود رئيس المجلس الأعلى لقيادة الثورة كقائد و رئيس لنظام العسكرى الجديد . كما برز من أسماء اعضاء المجلس العسكري  و مجلس الوزراء العسكريين اللواءات حسن بشير نصر و احمد عبدالوهاب و محمد طلعت فريد و الاميرالايات المقبول الأمين الحاج و محمد نصر عثمان وهم الذين تولوا مهام مجلس الوزراء . استعان الرئيس الفريق ابراهيم عبود بالعديد من المدنيين مثل السيد أحمد خير المحامي و السياسى المشهور و هو أحد مؤسسى مؤتمر الخريجين و عينه وزيرا للخارجية و بعض المدنيين السياسيين فى مجلس الوزراء بينهم بعض الجنوبيين .

لم تواجه الحكم العسكرى الأول ، فى بداية عمره ، معارضة بل وجد ترحيبا شعبيا واسعا لتضجر السودانيين من مماحكات الأحزاب و اختلافاتهم و عجزهم عن تلبية متطلبات الشعب من الأمن و التنمية و العدالة و الخدمات الحيوية.

أحدث النظام العسكري الشَمولي اختراقات كثيرة فى السياسة الخارجية و الإقتصاد و التعليم و الأمن و الخدمات و الثقافة و الرياصة و الفنون .

ترك حكم الرئيس عبود بصماته الواضحة فى كل أوجه الحياة . انشا الكثير من البنيات الأساسية و فى العلاقات الخارجية و ترك بصماته الواضحة فى التعليم و الثقافة و الرياضة و الزراعة و الصناعة و الإدارة و الخدمات.

 بنفس القدر ، كانت له سلبيات منها : تعطيل نمو و تطور الحياة الديمقراطية و تهجير مواطنى حلفا تهجيرا قسريا جائرا بدون مقابل يذكر  بيد ان مشكلة الجنوب كانت بمثابة كعب أخيٓل و الثقرة التى تسببت فى سقوطه.

من إيجابيات نظام عبود التوسع في التعليم الثانوي و المشاريع الزراعية القومية الكبرى و الخزانات و الطرق المسفلتة العابرة و التعليم العالي و زيادة الصادرات.

فى السياسة الخارجية أظهر دور السودان الريادي فى مجموعة دول عدم الانحياز  و ارتقى بعلاقات السودان بدول الجوار خاصة المملكة العربية السعودية و مصر و الدول الأفريقية حديثة الاستقلال و الدول العظمى مثل الصين و امريكا و روسيا و بريطانيا.

استقبلت البلاد فى عهد الرئيس عبود المعونة الاقتصادية الأمريكية ، إحدى آليات السياسة الأمريكىة الخبيثة فى التدخل فى شؤون الدول الفقيرة أو المتخلفة الداخلية .

اختلفت الأحزاب السياسية الكبيرة فى مواجهة النظام حيث هادنه ، مؤقتا ، حزب الامه و رحب به حزب الشعب الديوقراطي و واجهه منذ الوهلة الأولى الحزب الشيوعي السودانى و الاخوان المسلمون .

حولت مشكلة غمر مدينة حلفا بمياه النيل ثمنا لتشييد السد العالي المصري و تهجير سكان وادى حلفا و إعادة اسكانهم فى منطقة خشم القربة مختلفة المناخ ، المعارضة السلمية الصامتة ، الا من توزيع المنشورات و التى برع فيها الشيوعيون و الاخوان المسلمون بدرجة معقولة ، إلى معارضة جهيرة بدأها سكان وادي حلفا الذين قابلوا

  قرار تهجيرهم الكارثي بالاحتجاجات و التظاهرات و المنشورات و المواد الثقافية المنشورة  . امتدت معارضة أهل حلفا إلى العاصمة فاستغلتها أحزاب المعارضة فى الجهر بالاحتجاجات و التظاهرات ضد قرار بيع نظام عبود العسكرى لمدينة حلفا فتحول الأمر إلى شان قومى يمس كرامة البلاد و أمنها القومى و ليس شأناً محلياً يخص الحلفاويبن وحدهم.

من إيجابيات الحكم العسكري ازدهار الاقتصاد السودانى كنتاج لزيادة المشروعات المنتجة لسلع الصادرات.

لم يكن نظام عبود شديد القمع مع خصومه و أكثرهم شراسة الحزب الشيوعي فكان يكتفى باعتقال النشطين منهم و سجنهم لمدد بسيطة كعفوبة تأديبية ، بيد أن أعنف مواجهة كانت مع مجموعة عسكرية من داخل النظام حاولت الانقلاب عليه و لم يحالفها التوفيق فحكم النظام على بعض قادتها بالإعدام و على الآخرين بالسجن و الأبعاد من الخدمة العسكرية.

أنشأ النظام صحيفة يومية ناطقة باسمه اسمها الثورة و هى أول صحيفة  حكومية  كانت متطورة بالمقارنة مع الصحف المستقلة الممنوعة عن الصدور .

كعادة الصحف الحكومية لا يقبل القراء عليها و يقاطعونها لأنها  لا تنشر كل الحقائق و تروج لأعمال الحكومة. تقول الرواية أن أحد باعة الصحف الجائلين ابتدع طريقة عفوية للترويج لها فكان يصيح (البِرِش بى قِرِش ) كانت النسخة تباع بقرش واحد . بكم تباع الصحيفة اليوم ؟ و لأن حجم صفحات الجريدة كان كبيرا شبهه البائع ببرش الصلاة .

أنشأت حكومة عبود تلفزيون السودان و كان من أوائل محطات التلفزة في العالمين العربي و الأفريقي بالإضافة إلى المسرح القومي الذي اجتذب الفرق الاجنبية الغنائية و الاستعراضية من أشهرها المصرية و الإثيوبية. اهتمت الحكومة بإنشاء فرقة الفنون الشعبية التى عكست ثراء السودان فى التنوع الثقافى . كما كان المسرح القومى منصة إعلامية لاشهار للمطربين و المسرحيين السودانيين المشهورين.

من أشهر قرارات حكومة الرئيس عبود السياسية القوية للمحافطة على السيادة القومية قرار الفريق إبراهيم عبود  التاريخى الشجاع الصارم القاضى بطرد منظمات التبشير الكنسي إحدى أخطر وسائل الاختراق الدينية الاستعاربة و التى كانت تنصر مواطنى جنوب السودان و جبال النوبة و تعيدهم و تدربهم على التمرد و الانفصال باسم الدين. ضرب هذا القرار الشجاع الدول التي تدعم النشاط التبشيري فى مقتل مثل إيطاليا و بريطانيا و الولايات المتحدة و مجلس الكنائس العالمى فحنقت هذه الدول على نظام الفريق عبود فشجعت علية ثوار أكتوبر و لم تقدم له هذه الدول صديقة الأمس اي دعم لا سياسي و لا مالى و لا معنوي عقوبة له على خروجه على طاعتها .

و رب ضارة نافعة لم يكن قرار طرد الكنائس من السودان حربا دينيه كما يشيع اليهود و النصارى و يروجون لهذه الفكرة ضد السودان  منذ ذلك التاريخ و إلى يوم الناس هذا .

لم يترك الفريق عبود فراغا فى هذا الشأن يرتد عليه بالضرر السياسى و المعنوي ، بل أنشأ و اسس الكنيسة السودانية ليسودن بها الكنيسة الأوربية ، و من ثم  أجبر الفاتيكان ليعترف بها و يدعمها .

زادت معارضة طلاب جامعة الخرطوم الشرسة الضغط على نظام الفريق عبود الذي اضطر لمواجهة الطلاب العزل بإطلاق الرصاص عليهم لتفريق ندوة سياسية تكشف عسف و دكتاتورية النظام. سقط فى هذة الليلة الدامية اول شهداء طلاب جامعة الخرطوم العزل ، أحمد القرشي طه و الذي بسقوطة شهيدا بدأت ساعة الصفر و العد التنازلي فى يوم ٢١ أكتوبر ١٩٦٤ إيذانا بسقوط نظام عبود  اول نظام عسكرى و رغم مرور   ٤٦ عام أول على سقوط الشهيد أحمد القرشي طه ابن قرية القْرّاصة بالنيل الأبيض ، لم تنتهى ارتال الشهداء و لم تكف القبضة العسكرية عن حكم السودان اضطرارا.

لا يزال مستقبل الحكم في السودان مجهولا و لا زالت الدائرة الجهنمية تدور بمصيرة بين نظام برلمانى ضعيف و عاجز و نظام عسكرى شمولي قابض و انتقال بين المرحلتين.

قد نعيش هذا الاضطراب السياسى الذى اقعد السودان آماداِ و حقباً أخرى ، علمها عند الله.

تعليقات
Loading...