عثمان جلال يكتب:المراحل الانتقالية المدخل للوحدة الوطنية والبناء الديمقراطي. 

الخرطوم :مرايا برس

(1)
رغم نجاح القوى السياسية الوطنية في إدارة مهام المرحلة الانتقالية الأولى في السودان 1953 إلى 1955 والمتمثلة في سودنة الوظائف والجلاء، وإعلان الاستقلال من داخل البرلمان الا انها أخفقت في إدارة ملفات السلام والتوافق على النظام الديمقراطي الأمثل للحكم ، نتيجة التناحر حول السلطة ، والتنافس حول مراكز القوة داخل الحزبين التقليدين، واستمرت حالة التناحر والتشاكس بعد انتخابات عام 1958 وتشكيل الحكومة الائتلافية بين حزبي الأمة والوطني الاتحادي برئاسة السيد عبد الله خليل، وفي رأي ان السبب الاستراتيجي للاخفاق بنية الاحزاب الطائفية البرجوازية التي تتناقض مع القيم الديمقراطية، مما أدى إلى وأد التجربة الديمقراطية الاولى وصعود الدكتاتورية الأولى بقيادة الجنرال عبود 1958 إلى 1964.
(2)
بعد ثورة أكتوبر 1964 سيطر الشيوعيون على الحكومة الانتقالية تحت واجهة جبهة الهيئات الأولى بقيادة الأستاذ سر الختم الخليفة، وأدى ضغط الأحزاب اليمينية لإجراء تعديل شاركت بموجبه الأحزاب السياسية بممثل في الحكومة الانتقالية، ولكن أيضا اخفقت القوى السياسية الوطنية في التوافق حول قضايا البناء الوطني الديمقراطي والسلام في الجنوب (عدم إنفاذ مخرجات مؤتمر المائدة المستديرة وتوصيات لجنة الاثني عشر)، بل دفعت أحزاب الأمة والوطني الاتحادي وجبهة الميثاق الإسلامي في اتجاه تقصير المرحلة الانتقالية واجراء الانتخابات العامة وتجاوز تنظيمها في دوائر الجنوب وقد رفضت أحزاب الشعب الديمقراطي والشيوعي ولجنة الانتخابات تنظيمها وإزاء هذا الانقسام والشرخ في المشهد السياسي الوطني تم إجراء الانتخابات العامة ائذانا بالتجربة الديمقراطية الثانية في السودان 1965 إلى 1969 وتجلي الانقسام والتشطي خلال هذه الفترة في حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان، وقوف المرحوم أزهري مع محمد أحمد المحجوب ضد الإمام الصادق المهدي، ووقف أزهري مع الصادق المهدي ضد المحجوب، ليس لغاية السلام والنظام الديمقراطي المستدام بل للمصالح الذاتية ، وسقطت التجربة بانقلاب الجبهة التقدمية اليسارية بقيادة العقيد جعفر نميري في 25 مايو 1969 والذي استمر في الحكم عبر تجلياته وتناقضاته حتى سقط عبر ثورة الشعب في أبريل 1885م، وبعد فترة انتقالية استمرت لعام قادها المجلس العسكري الانتقالي بقيادة المشير سوار الذهب والتجمع النقابي بقيادة الدكتور الجزولي دفع الله ، تم إجراء الانتخابات العامة بذات الاستقطاب السياسي الحاد، والتعاطي بعقلية الثنائيات المضرة مع قضايا البناء الوطني الديمقراطي والوحدة الوطنية(اتفاقية كوكادام 1986،اتفاقية الميرغني قرنق 1988).
هذا التراكم من الإخفاق ادى إلى تضعضع التجربة الديمقراطية الثالثة حتى صدع احد سدنتها (لو شالا كلب ما في زول يقول ليهو جر)، وقد هزوا بجذع شجرة الديمقراطية الثالثة هزا شديدا وقطف الإسلاميون الثمر في يونيو 1989 كما عبر استاذنا بروف عبد الله علي ابراهيم عن هذه الملهاة الدائرية في كتابه صدأ الفكر السياسي السوداني (وما ان سقط النظام الديمقراطي الثالث في يونيو 1989 وجاء حكم الرجعية الماخمج حتى ضرب الجزافيون الأرض طولا وعرضا يتكففونها بالانتفاضة والثورة الشعبية والمسلحة ابوها مزعوطة واكلوها بصوفها )
(3)
استمر نظام الإنقاذ الوطني في الحكم بتقلباته وتحالفاته وتناقضاته السياسية إلى العام 2019 وتخللت سني حكمه المتطاولة مرحلة انتقالية خلال الفترة من 2006 إلى 2011 ، وشاركت فيها غالبية القوى السياسية الوطنية، وبدلا من أن تهتبل القوى السياسية الفرصة في دعم مشروع الوحدة الجاذبة بين الشمال والجنوب، وترسيخ التحول الديمقراطي المستدام اكتفت بمغانم ومحاصصات السلطة، بل وشاركت في اجازة القوانين الاستبدادية مثل (قانون الأمن الوطني، قانون الصحافة والاعلام).
(4)
استنفد(نظام الإنقاذ المشروعية الفكرية والسياسية) بعد ان انفضت عنه النواة الفكرية الصلبة للاسلاميين، وتعازل عن المجتمع وانكمش كمشروع سلطة في القصر كما أراد له الرئيس السابق البشير، ومع ذلك برزت تناقضات مجموعات السلطة حتى تمت الإطاحة بالرئيس البشير بدعم وتأييد إقليمي ودولي،تحت غطاء الثورة الشعبية في أبريل 2019. وتم توقيع الوثيقة الدستورية في أغسطس 2019 وأسندت مهام ادارة المرحلة الانتقالية لتحالف هش بين قوى الحرية والتغيير والمكون العسكري. ولئن أخفقت المراحل الانتقالية السابقة في الإدارة الاستراتيجية لمهام البناء الوطني الديمقراطي المستدام إلا أنها نجحت في تسليم السلطة لحكومات منتخبة من قاعدة المجتمع ولكن قحت نزعت لإطالة المرحلة الانتقالية الحالية لعشر سنوات عجاف رغم فشلها في إدارة كل الملفات السياسية والاقتصادية والمجتمعية والهوياتية، وتشظيها إلى مجموعتين، بل وكاد أن يقع السودان في فخ الفتنة والصراع المجتمعي والتفكك لولا قرارات 2021/10/25 والتي مهما اختلفنا حول تفسيرها الا انها وضعت كل القوى السياسية أمام مسافة متساوية من السلطة الانتقالية الحالية
(5).
هذا التحليل التاريخي يؤكد ان وحدة وتوافق كل القوى السياسية الوطنية الخيار الاستراتيجي لإسقاط أنظمة الاستبداد، وأساس نجاح المراحل الانتقالية، وغرس مشروع الديمقراطية المستدامة، وانهاء الدورة الشريرة التي مازت دولة ما بعد الاستقلال الوطني، ولئن فشلت القوى السياسية الوطنية منذ الاستقلال في الوحدة والتوافق حول مهام البناء الوطني الديمقراطي، فإن مأزق التحدي الوجودي الراهن للسودان كدولة وأمة يحتم عليها تجاوز عقلية الصراع حول المصالح الحزبية والتحيزات القبلية والمناطقية والتحرر من الايديولوجيات، والاجندة الخارجية الخبيثة، والاصطفاف وبناء الكتلة التاريخية الوطنية الحرجة من أجل إنقاذ السودان من التفكك والانهيار، ثم من أجل استكمال مهام المشروع الوطني الديمقراطي المستدام.

تعليقات
Loading...