عثمان جلال يكتب: بين الزعيمين الترابي وعبد الخالق محجوب. 

الخرطوم :مرايا برس

(1)
تفرد الزعيمان الترابي وعبد الخالق محجوب بتأسيسهما جماعة فكرية وسياسية بعيدا عن ثنائيات الولاء الطائفي، وسعيا لبناء أحزاب تزواج بين الأصالة وخصوصية التربة السودانية والحداثة،ومايزا بين مثالات النظرية الاممية والوطنية، فحملت أحزابهما ملامح السودانوية، بعيدا عن السلفية العدمية التي ترى أن النظرية كلية الصحة ومطلقة الحقيقة، وسعيا إلى تنزيل النظرية من الصفوية إلى الجماهيرية بعد مجاهدات فكرية وتنظيمية حيث تبدت في صراع المرحوم عبد الخالق محجوب مع عبد الوهاب زين العابدين، وعوض عبد الرازق حيث تجلت رؤيتهما على ضرورة بناء النسق الماركسي وسط المثقفين والجماعات الاتحادية والطبقة الوسطى وارجاء تشكيل الحزب الشيوعي، بينما تركزت رؤية المرحوم عبد الخالق على ضرورة تلازم نسق البناء الثقافي والفكري وسط قطاعات الجماهير،فقال في صرامة فكرية(أن كل صراع داخل حزبنا ما هو إلا انعكاس للصراع الطبقي خارجه، وان الحزب في حرب المصالح الغريبة عن مصلحة الطبقة العاملة الا يجتث جذور أفكارها فحسب بل ظلال تلك الافكار).
(2)
كذلك تصدى الدكتور الترابي بالفكر والوعي للطليعة التي ارتأت اختزال الحركة الإسلامية في جماعة تربوية دعوية تمارس الجدال الفقهي والفكري، وشيد جماعة سياسية شاملة نضج فكرها ووعيها بذوبانها في المجتمع كذوبان الصوفي في العبادة، وقد اجتهد الاستاذ عبد الخالق محجوب على التزام المسار الديمقراطي الصبور والدؤوب لنيل ثقة الجماهير ومشروعية الحكم فكل التراث الذي وثق للفترة من العام 1965 إلى العام 1971 حيث شهدت هذه الحقبة الأحداث الجسام في تاريخ الحزب الشيوعي (حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان، مؤتمر الماركسية وقضايا الثورة السودانية، قضايا ما بعد المؤتمر، انقلاب مايو 1969،انقلاب هاشم العطا 1971،اعدام عبد الخالق محجوب ) في كل هذه المواقف تمترس المرحوم عبد الخالق محجوب حول الخيار الديمقراطي في التعاطي مع هذه الأزمات الفكرية والسياسية، ووصف خيار الانقلاب كآلية للوصول إلى الحكم بسياسة القفز ليلا من أعلى البيوت وأدات البرجوازية الصغيرة التي تتأفف عن العمل الصبور والدؤوب والالتحام وسط الجماهير، بل كانت آخر كلماته قبل الصعود لمشنقة الإعدام (قدمت الوعي بقدر ما استطعت) فهذه هي الشواهد المبذولة في دفاتر التحري التاريخي عن عمق قناعة الرجل بالديمقراطية.
وكذلك اكتسب زعيم الإسلاميين الدكتور الترابي رمزية أيقونة ثورة أكتوبر 1964 بتشخيصه العميق للأزمة الدستورية حيث قال (إن المحنة ليست محنة الجنوب وحده، بل محنة الشمال والجنوب فقدان الحرية والديمقراطية والنظام الدستوري)، وعندما سأله الصحفي أثناء زيارته لبيروت عقب ثورة أكتوبر ماذا ستفعلون لو انقلب الجيش على النظام الديمقراطي؟ كانت استدراكه القطعي هو سنعود مرة أخرى لحشد وتعبئة طاقات المجتمع لإسقاط الانقلاب بالثورة، ولعل جوهر نظرية الدكتور الترابي مؤسسة على تمكين قوامة المجتمع في السياسة والحكم والثقافة والاقتصاد والنهضة والحضارة، لذا يقال ان الدكتور الترابي كان ضد خيار إدارة الأزمة السياسية التي برزت بعد إقصاء الجبهة الإسلامية من حكومة الوفاق الوطني في فبرلير 1989م عبر خيار الانقلاب بل دفع دفعا لهذا الخيار وقد استبان ان البعد الاستراتيجي للانقلاب كان إقصاء الدكتور الترابي من قيادة حركة الإسلام في السودان، وتصفية مشروع الحركة الإسلامية وايلولته إلى محض مشروع سلطة على النحو الذي تعلمون.
(3)
استمازت العلاقة التاريخية بين المدرستين في لحظات الهوجة الأيديولوجية بالصدام والمنازلة كما حدث بينهما تقارب إبان ثورة أكتوبر 1964،وكذلك بعد انتفاء العلاقة بين النميري والشيوعيين حيث تلاحم اليسار مع اليمين في ثورة شعبان 1973 المعروفة بثورة ود المكي.
من المفارقات ان العلاقة بين الإسلاميين والشيوعيين بلغت مداها من القطيعة وأيضا مداها من التوافق والتحالف خلال سني حكم الإنقاذ الوطني خاصة بعد تمايز تيارات من الاسلاميين عن السلطة وتأسيسها أحزاب سياسية مستقلة، وفي هذه المرحلة تحررت فيهما المدرستان من حمولات النظرية المثالية الثقيلة واقتربتا اكثر من قضايا البناء الوطني والديمقراطي.
إن الصدام التاريخي بين المدرستين، ومشاركتهما في انقلابات 1969، 1971، وقيادة الحركة الإسلامية لانقلاب 1989،اصل الداء وراء تعطل قضايا البناء الوطني الديمقراطي ، وأساس الجمود الفكري والسياسي وتشظي المدرستين، وكلما تلاقت المدرستان في لحظة وطنية فارقة ساهمتا بوعي وعقلنة في القضايا الوطنية.
(4)
ان السودان في لحظة تاريخية تتساوى فيها حالة السقوط والوحدة والنهوض ومن كمال النضج السياسي والحكمة الوطنية استكناه عقلاء وقادة اليسار السوداني وقادة التيار الإسلامي الوطني العبر والاعتبار وإدراك أن المدرستين رغم تناقضهما الأيديولوجي هما الأكثر تأهيلا للتصدي لقيادة مبادرة الحوار الوطني الشامل للتوافق حول الممسكات الوطنية وتشكيل الكتلة التاريخية الوطنية، والتي تضم كل القوى السياسية الوطنية والحركات المسلحة وقطاعات المجتمع الحي وشباب الثورة ولجان المقاومة لانتشال السودان من مخاطر الفوضى والتمزق،والعبور بالمرحلة الانتقالية إلى انتخابات حرة وشفافة، بل وان استمرارية وتوافق هذه الكتلة التاريخية الوطنية المدخل الاستراتيجي للوحدة الوطنية و بناء ثقافة السلام وغرس المشروع الوطني الديمقراطي المستدام، وإلا فالسلام على السودان. 

تعليقات
Loading...