علي سفر يكتب عن المفكر جودت سعيد.. غاندي سوريا الذي رحل..بعدما قاوم الاستبداد بلا عنف .

الخرطوم :مرايا برس

كانت مجموعة من شباب مدينة داريا الثائرين، في ذلك اليوم، 30 حزيران 2011، ينتظرون من الزائر الذي أتى كي يقدم العزاء بشهداء سقطوا برصاص الأجهزة الأمنية خلال التظاهرات، أن يذهب مباشرة في حديثه لهم نحو غاياتهم. فهُم، وقد اعتبروا دائماً أن الشيخ جودت سعيد هو الملهم لحراكهم السلمي، لربما أرادوا منه أن يقف على المنبر ليدعوهم إلى رفع وتيرة الحراك أكثر فأكثر.
لكن الرجل بدأ حديثه بذكر سورة البقرة “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون”، ليؤكد من خلالها على فكرة كررها أكثر من مرة في كلمته: “الفساد في الأموال ينتج عنه سفك الدماء”، غير أن الحشد الذي انتظر دقائق بدت وكأنها دهر، بدأ بالقهقهة عندما قال الضيف: إن الديموقراطية التي طبقها الغرب، لا تقول أبدأ باستمرار الحاكم إلى الأبد!
وحينما سأله أحد الحضور عما إن كان سيخرج معهم في تظاهرة، أجابه بالقول: “أنا متظاهر”! وعن شعار “إسقاط النظام”، ربما صدم الجميع عندما قال: “فليبق بالانتخابات”!
تفاصيل هذه الكلمة، ما زالت متوافرة في موقع جودت سعيد الإلكتروني، الذي يحتوي تسجيلات عديدة، إضافة إلى غالبية ما أنتجه الرجل من مؤلفات فكرية، وأحاديث في مجلسه، حيث دأب على إقامته في قرية “بيرعجم” الجولانية الواقعة على خط وقف إطلاق النار.
العودة إلى تراث جودت سعيد، الذي رحل عن عالمنا، الأحد (30/1/2022)، ولقّبه السوريون بـ”غاندي الصغير”، تبدو في هذه الأيام أشد من ضرورية. فالظرف السوري العام ذاته، وفي واقع البلاد التي أصابتها كارثة عظمى تسبب بها الاستبداد، يملي عليهم مراجعة للمسارات التي مضت فيها ثورتهم، لا سيما انصياعهم إلى إملاءات عنف فرضه عليهم لجوء النظام إلى الحل الأمني كطريق وحيد لمعالجة الأزمة الحاصلة منذ البداية بسبب غياب الديموقراطية وسيطرة القسر على حياتهم، والاستبداد، وإلغاء الحياة العامة.
كان جودت سعيد، ومنذ بداية الثورة، واضحاً في موقفه مما يجري، فهو داعية لاعنفي، حاول طيلة عقود دعوة المسلمين إلى مراجعة ثوابت بعضهم في اللجوء إلى القوة لحل استعصاءات حيواتهم، عبر سلسلة كتب كان عنوانها العام هو “سنن تغيير النفس والمجتمع”، أثارت بعض عناوينها وعبر طبعات كثيرة، جدلاً ونقاشاً بين القراء والعلماء المسلمين، ككتبه “حتى يغيروا ما بأنفسهم” و”لا إكراه في الدين”، و”مذهب بني آدم الأول” الذي يؤشر عنوانه الفرعي “مشكلة العنف في العمل الإسلامي” إلى طبيعة محتواه.
دوي القصف وأزيز الرصاص، وإيقاعات الموت المتصاعدة في البلاد الثائرة، كانت أعلى من الصوت العقلاني، المطلوب آنذاك في مواجهة جنون القتل، والإرهاب، وسائل أتى بها “السلطان” الذي ليس لديه صديق ولا أخ”. فمواجهة العنف بالعنف ستجعل الفعل ورد الفعل متساويين حقاً، وبما ينتج عنه المساواة بين الضحية والجلاد، ما سيؤدي إلى خلق فوضى، تتسبب بضياع الحق والتعمية على أصحابه. كما أن هذا سيجعل النظام ينتصر في النهاية، فهو متمرس في هذه اللغة، من خلال تملكه لعنف الدولة، وعبر تاريخه الدموي في قمع المعارضة، لا سيما تلك التي رفعت السلاح بوجهه (الطليعة المقاتلة)!
الأجهزة الأمنية والتي لطالما غضت النظر عن أفكار سعيد، التي تتناول في جوانب عديدة منها منابع العنف السلطوي، وأثره في تسيّد الفساد على المجتمع، وقد كانت ومنذ البداية تنفذ مخطط دفع الحراك السلمي نحو العسكرة، لم تجد سبيلاً للسكوت عنه في هذه الأوقات، حينما كان الشباب الثائر يعلن أن خياره السلمي يستند إلى أفكار تحدث بها ومنذ ستينيات القرن الماضي، مفكر إسلامي يعيش في قرية سورية. فصارت الضغوط أكبر من قدرة الكهل الثمانيني وعائلته على التحمل، فكان خروجه إلى تركيا، وسكنه في الجانب الآسيوي من مدينة إسطنبول، فرصة لاستمرار دعوته السلمية، لإحداث التغيير، في الضفة المناقضة لكل ما حدث في سوريا.
ربما يكون من حظ السوريين عموماً أن تراثاً غنياً كهذا النتاج، كان يصل دائماً إلى معتنقي الأفكار التي تحتويه، وبذلك فإن دعوات الفكر اللاعنفي كانت تغتني عالمياً من خلال ما تم نقله من أفكار جودت سعيد إلى اللغات الأخرى. ولعل المنحة الأكبر لهم تتأتى من أن سرديتهم الراسخة عن ثورتهم، والتي بدأت سلمية، كان للراحل موقع متمكن فيها، وبألسنة ناشطي الثورة قادة التنسيقيات الأولى، وبما يرسم خطوطاً فاصلة بين ما أراد الثائرون السلميون أن يفعلوه، وبين الواقع الذي أودت به سياسة النظام العنيفة والدموية نحو الهاوية!.

*عن جريدة المدن الإلكترونية 

تعليقات
Loading...