في أدب الرحلات.. الزبير نايل يكتب أيام في بلاد الماساي

الخرطوم :مرايا برس

أشد ما يثير أشجاني ويبلغ بي ذروة الدهشة تلك القفزات العالية التي تهاجر في الهواء بجسم منحول وقوام ممشوق لراقصي قبيلة الماساي بأطوالهم الفارعة وألوان ملابسهم المزركشة الزاهية وأعناقهم المطوقة – رجالا ونساء -بقلائد مزينة بخرز ملون مصفوف في شكل دوائر بمهارة فائقة، ووشم محفور على الجباه كطقس قبلي متوارث منذ زمان غابر .. ظلت تلك الصورة مطبوعة في ذاكرتي وتقفز مباشرة كلما يأتي ذكر كينيا ..

كينيا.. الماو ماو .. بلاد الشاي.. واحة الثراء المدهشة وأرض الطبيعة الخلابة.. قلب إفريقيا النابض وأحد عناوينها البارزة بحياتها البرية الغنية وأسودها ونمورها وفهودها التى تجوس تلك السهول المترامية والغابات المتشابكة آمنة مطمئنة حتى غدت وجهة سياحية مبهرة بسواحلها التي تغسلها مياه المحيط الهندي الدافئة وتنوع مناخاتها بين استوائي ماطر وجبالها المغطاة بالثلوج واعتدال درجات الحرارة في بعض مناطقها المنخفضة التي تنطلق منها رحلات السفاري.

المساء أرخى أطرافه والمدينة حشدت أنوارها.. هبطنا مطارها الدولي واسع الأرجاء والذي يحمل اسم بطل كينيا جومو كنياتا الذي فك أسر بلاده من قبضة البريطانيين وألبسها ثوب التحرر وأعادها إلى الحضن الإفريقي من جديد وأصبح الرمز الخالد في وجدان شعبه منذ أن قاد انتفاضة الماو ماو لطرد المستعمر .

نيروبي اسمٌ موسيقي مهما نطقته بأي لغة، تأسر الزائر لها قبل وصولها لأنها تعني في لغة الماساي المدينة الخضراء ومكان الماء البارد، ووجب أن تهفو لها النفس وهي بكل هذه الخضرة والمياه والوجوه الباسمة..

في الطريق إلى مركز المدينة انتظمت مبانيها وتراصت متاجرها وتوزعت أسواقها بشكل جاذب واكتست المدينة بثوب من الحداثة غلب عليه الطابع الإنجليزي .. أبراج شاهقة توفر إطلالة بانورامية على أرجاء المدينة بكل ما تحتويه من إبداع وسحر .. هذا مبنى صحيفة النيشن الكينية في شكل أسطوانة وذاك قصر المؤتمرات الفخيم بطوابقه الثمانية والعشرين وفي متحفها الوطني تكاد تشاهد الإنسان الأول وقد عبر هذا المكان ..

لكن ما لفت انتباهي هي الجالية الهندية وانتشارها الكثيف في المحال التجارية والأسواق وسبب ذلك أن الإنجليز استقدموا في أوائل القرن الماضي عشرات الالاف من الهنود لبناء السكك الحديدية في كينيا وتوالت هجراتهم بعد ذلك وطاب لهم المقام وانصهروا في مجتمعها حتى أصبحوا أحد أعراق البلاد ..

أخذنا مرافقنا في جولة سياحية خارج المدينه وتوجه بنا إلى تلال نغونغ أحد أبرز المعالم السياحة.. من بعيد لاحت لنا تلك الروابي والتلال المدببة الجميلة التي تنبسط تحتها سهول يكسوها بساط داكن الخضرة وتوفر إطلالة خلابة ومذهلة على وديان تسرح وتمرح فيها الغزلان والجاموس والنعام والزرافات ومجموعة متنوعة من القرود، إنها منطقة مبهجة حقا تشرح القلب وتسر الناظرين واكسبت البلاد مشهدا سياحيا نادرا .

دلفنا إلى سوق ماساي كثيف الضجيج والازدحام ،وهناك تنفتح عينيك على منتجات الحرف اليدوية للبلاد بأسرها، وتقترب أكثر من أفراد الماساي الذين تتقاصر دونهم قامتك مهما كانت وتعيش تجربة مخاطبة شخص ووجهك إلي السماء .

أنجزنا مهمتنا وتزودنا بالشاي الكيني الشهير بعد أن سجلت نيروبي نفسها مدينة جميلة في دفتر إعجابنا ..

ونحن نستعد لمغادرة المدينة خرجت أتمشى بين بنياتها الشاهقة التي توفر ممرا هوائيا ناعسا، جلست إلي إسكافي لينفض عن حذائي شوائب عالقة ويكسبه طبقة لامعة، انخرط بهمة في عملة وبعد دقائق تحولت فردة حذائي السوداء إلى لون أبيض والأخرى كما هي ونهض من جلسته واختفى عني .. ظللت منتظرا وعندما طالت غيبته نهضت من مكاني مرتديا حذاءً كل واحدة منه بلون، تبخترت به غير مكترث لدهشة المارة وضحكاتهم ..
إنها نيروبي الجميلة لابد أن تطبع تذكارا خالدا في ذهنك.

تعليقات
Loading...