في أدب الرحلات.. الزبير نايل يكتب :كنت في بلاد التنين

الخرطوم :مرايا برس

الصين .. وقرت في نفسي بأنها مكان في أطراف كوكب الأرض، الوصول إليها دونه خرط القتاد والسبيل إلى صعود سورها العظيم فيه جموح من خيال، بل تكاد تفقد ذاتك وأنت تتقلب في قبضة تصوراتك كيف تنسرب بين أكثر من مليار إنسان بعيون دقيقة متشابهة وقامات تكاد تكون متساوية.

الرحلة طويلة وشاقة.. تعبر دولا ومناخات مختلفة ويتغير التوقيت الزمني لديك كليا.. لتبديد ملل الجلوس الطويل ما عليك إلا أن تُسلم نفسك َ للريح والسحاب وتقلباتِ الطقس وتُطل من نافذة صغيرة لترى كيف تشطر الطائرة كتل السحاب وترجع بصرك لشاشة العرض في مقعد الطائرة لتطالع أسماء المناطق التي تعبر فوقها.. لاشي غير ذلك سوي فراغِ الفضاء العريض..

العام كان عام (القرد المائي) وفق تقويم أولئك القوم، هبطنا بسلام في بكين أو بيجين المتدثرة ِ يومذاك بثوب أحمر فاقع مُطرزٍ بنجمة كبيرة محاطةٍ بنجمات أربع، وصور الزعيم الصيني تملأ الشوارع وتعلو المباني وتغطي الساحات..

في ميدان تيانامين الشهير، الشعب الأصفر يسد عين الشمس، الدراجات كأنها في ماراثون مصطفة عند إشارات المرور، وماوتسي تونغ في خلفية أي مشهد ، المدينة سمتها صارم القسمات ومنكفئة على العمل والإنجاز، العمل هناك قيمة بحد ذاتها، وإتقانه فرضٌ حتى نهاية العمر، ولا عجبَ أن تشاهد الطاعنين في السن يعملون في أعالي الجبال، لا وقتَ للتسكع وليس هناك فراغ للتزجية، كأنهم يحملون همّ العالم كله فوق أكتافهم وهذا هو سر الأسرار.
كنت في لهفة لزيارة أحد أهم مواقع التراث العالمي وإحدى عجائب الدنيا السبع، سور الصين العظيم، وما يمثلة من جبروت وقوة وشكيمة الإنسان في الدفاع عن وجوده، والسور من تمام زيارة أي شخص للصين.

(وانغ شو) شاب بلحية شحيحة وشارب نافر للأمام وعيون دقيقة كالصقر يعتقد أن بلده هو نواة العالم التى يدور في فلكها كل شئ، كان دليلنا الذي أخذنا في رحلة الصعود إلى السور العظيم وقدم لنا شرحا بكل غبطة ٍ تعزز اعتقاده ذاك.. والسور مشروع دفاعي بطول واحد وعشرين ألف كيلومتر وتم تشييده قبل ألفي عام لحماية البلاد من هجمات المغول .. أخلاط من البشر من كل أرجاء العالم قصدوه سياحا وجميعهم في دهشة مربكة واستبد بهم الإعجاب، والسور يتلوى كأفعى فوق الجبال المكسوة بالاخضرار.. إنه مشهد مذهل حقا ومعجزة في التاريخ المعماري البشري.

في طريق العودة إلى المدينة توقفنا في استراحة قصيرة.. أخرج (وانغ شو) غليونا ونفث منه دخانا بلونين، ما أدهش أفعالك أيها الشعب الأصفر.. ناولني كوب قهوة طعمها حتى الآن ملتصق بلهاتي كأنها معتقة من عهد الأباطرة أو خُلطت بدموع التنين..

عجائب الدنيا السبع زادت عندي واحدة لكنها كانت الأكثر إدهاشا .. في تلك النجوع البعيدة ومن تخوم جبال التبت تناهى إلى سمعي صوتٌ حباله مفتولةٌ من سعف نخيل بلادي ينادي علينا بلهفة ملتاعة وشوق مزقته السنين .. كأنني في حلم .. من بين المليار شخص يخرج لي سوداني وافر السُمرة قال إنه قدِم إلى هنا منذ خمسة وعشرين عاما وطاب له المقام وتزوج صينية بعد أن تعلم منها الحكمة والكلام.. يا للعجب.. أي قلب في صدر هذا الرجل ليخوض غمار تجربة كهذه وكأنه قطع وعدا على نفسه أن يقتفي أثر قتيبة بن مسلم الباهلي فاتح الصين.
ودعناه وحمّلنا أشواقَ ربع قرن للوطن والأهل وترك في نفسي حيرة ظلت تلازمني زمنا طويلا كيف يتكيف الإنسان مع بيئات مختلفة لدرجة الاندماج .

أكثر ما يربك الزائر للصين يومها هو الطعام، فالشعب الأصفر لا يترك شيئا يدب أو يطير أو يسبح الا وجلبه لمائدته.. كنا نأكل بتوجس وأغلب أكلنا فواكه وخضروات.. أبلغنا مرافقنا أن غدا سننتظم في حفل عشاء فاخر من رئاسة الدولة.. تهللت وجوهنا فرحا وزغزغت منا البطون.. وجاءت الليلة الموعودة.. أحكمنا ربطات العنق وقصدنا قاعة الطعام.. كل شي يلمع وكل شيء في انتظام.. يقف من خلفي نادل لتلبية طلباتي.. وأضواء الشموع أكسبت سمرتي لونا مضافا .. وضع أمامي حساء لفتح الشهية توطئة لما لذ وطاب.. بكل لهفة أخذت ملعقة ثم ثانية وعند الثالثة شعرت أن عيني اليمنى تحولت إلى الجهة اليسرى وهناك رفيف متعاكس بين أرنبة أنفي وحاجب عيني ..كأني سمعت حفيف أشجار .. تذكرت فجأة اسم العام الجديد في الصين….
عام القرد

تعليقات
Loading...