في أدب الرسائل..أميمة عبدالله تكتب: في الأول من أغسطس.

الخرطوم :مرايا برس

عزيزي يوسف…
هأنا اكتب إليك مرة أخرى
وقد صارت الأشياء أسهل مما كانت عليه قديما
الآن صار بإمكانك أن تقرأ مكتوبي وأنت في اي مكان وكيفما كنت
اليوم هو الأول من أغسطس ٢٠٢١م
حتى تعرف في أي يوم كتبت إليك عندما يقع عندك
كيف حالك؟
وكيف حال البلاد التي اخترت أن تعيش فيها ما تبقى من عمرك؟
أنت تعرف أنني مغرمة بكتابة الخطابات و أحب المراسلة خاصة عندما اراسلك أنت
لقد اختفت هذه العادة القديمة وصار التواصل عبر مكالمات الهاتف أسهل لذا الجميع هنا يفضله، هل تستطيع المكالمات نقل الأشواق كما الخطابات ونقل الأخبار و دقات القلب ؟ ربما
لقد تطورت الحياة وصار كل شئ ميسوراً وصارت صناعة الأكل أمرا ممكنا في أي وقت ليس كما كنا نعاني قديما ، لقد عانيت كثيرا من دخان الحطب و إشعال الفحم و السواد الذي تتركه على سطح القدور ورئتنا، مازال ذلك السعال يعاودني في كل حين بسببها ، كنا على قدر حال البسطاء في المعيشة ، وإلى الآن أنا أعيش على ذلك القدر المتوسط من الحال ، لا غنى ولا فقر
أتذكر عند وفاة أبيك في عام تغير الحكم في بلادنا صبيحة انتهاء عهد حكم وبداية آخر ؟
كنت وقتها تستعد لدخول الجامعة و أنا في الصف الخامس أبتدائية ، ومنذ ذلك الوقت انا أعمل في شؤون البيت من كنس وطبخ.
لم تكترث لأمر تغير الحكم فقد توفى والدك في ذلك الصباح تماما ، كانت وفاته أمر جلل ، يا له من يوم ، حزن جامع امدرمان العتيق على مؤذنه وكأن الجامع ما عرف مؤذنا غيره
أمي لم تفارفكم طيلة الأربعة اشهر الأولى
لوفاته ، وكانت تطعمنا من أكل بيتكم ، فقط تضع الطبق على الحائط الفاصل بيننا ثم تأتي بالباب ترفعه لتضعه أمامنا ، كانت تخاف إن تركته لنا أن ندلقه على الأرض لأننا صغار .
لا نحن ولا أنتم لم نكن نملك راديو ، أظننا كنا فقراء جدا
لكنني اتذكر أن الرجال كلهم بلا استثناء حتى الصبيان كانو يلتفون حول راديو حاج الحسن الذي اختار أن يضعه امام الدكان حتى يتثنى للجميع سماع الأخبار ، كانوا مولعين بمتابعة أخبار السياسة و الحكم الجديد
كانوا يقولون أنه انقلاب على الحكم وأن الحاكم الجديد عسكري من الجيش جاء لإصلاح حال البلاد ، فقد اشتدت الحرب القائمة في مكانٍ ما بعيد عنا وكاد الجيش أن يُهزم فيها وتقع الأرض التي قامت فيها الحرب في ايدى من يحاربونهم
وقتها إنقسم الرجال إلى قسمين ،
بعضهم كان يقول نعم يحب أن يحكم الجيش البلاد ، لقد أضعف الحكام السابقين أمر البلاد واستهانوا بحياة الناس ولم يكن يهمهم إلا صراعهم داخل مباني الحكومة.
والآخرين كانوا يقولون كيف يحكم العسكر البلاد ، لا يمكن ، لقد تدربوا في الكلية الحربية ليصبحوا مقاتلين في الجيش وليس حكاما وأن اسمها هو الكلية الحربية وليس الكلية السياسية، وأنهم لن يقدموا للناس شيئا لأن تفكيرهم يقتصر على الحرب فقط و أنهم لا يحسنون التدبير في قضايا التنمية ومعاش الناس و لا تصريف شؤون البلاد ولا تمثيلها خارجيا و أنهم فقط يحسنون تنفيذ أوامر قادتهم دون مناقشة أو تفكير
وآخرين كانوا يقولون أن دول أفريقيا هذه لابد أن يحكمها عسكري لأننا شعوبا متاخرة متخلفة، وأن الديمقراطية هى الفوضى و النزاعات وتشتت البلاد الناس لن تتفق أبدا.
لقد جددت الوقائع الآن تلك الذكرى وجعلتني ارجع و اتذكر ذلك الإنقسام بوضوح
المهم في الأمر أن أولئك الجدد حكموا البلاد ثلاثين عاما ، قضاء الله و صار
لم نكن نهتم لا أنا ولا أنت
انت كانت تشغلك كرة القدم و منافسات فريقكم في نادي الرياضة
لكننا كنا نسمع لأنه لم يكن للناس حديث آخر في خيمة عزاء والدك المؤذن سوى عهد الحكم الذي بدأ يتكشف للناس ومن وراءه
لم ينقطع المعزين عن المجئ طيلة الأيام السبعة الأولى ولم ينقطع حديثهم في شأن الحكم الجديد
زمانٌ وأنقضى
الآن نحن في العام ٢٠٢١م
اسعد اوقاتي هي تذكر أيام دراستي والعابرين الذين صادقتهم وحكاياتهم ، و الكتابة إليك أيضا خاصة بعد أن تطورت وسائل التواصل وصار كل شئ ممكنا ، كلما تقدم العمر بنا ذاد التفاتنا إلى ماضي أيامنا .
هل الناس مثلي يا ترى أم أنني وحدي أكثر الإلتفات واتوغل في الذاكرة
صار كل شئ ممكنا وواضحا ومازالت الناس مختلفة ومازالوا منقسمين هل يحكمنا عسكر الجيش أم أنهم لا يحسنون
تتصور يا يوسف !
و كأننا لم نستفد شيئا من تجربة الثلاثين عاما التي مضت
فعلا نحن شعب متاخر و بعيد عن الحياة .
توقفت الحرب ليس لأننا توصلنا الى سلام بل لأن كل جزء راح لحاله ، صوت البندقية ايضا تطور واختلف و صار بدلا عنه الآن صوت الكلام انتقلت الحرب إلى المواجهات بالكلام و الفجور في الخلاف والخصومة وتبادل الإتهامات
وصار الفضاء مفتوحا لكل صدر يغلي وكل زفير شاذ و كلام يفرق ولا يجمع
لذلك شقاء الناس في الحياة إذداد صعوبة وقسوة حتى أضحوا لا يتمنون سوى لقمة العيش و جل الأماني هو الحصول على الخبز والماء
و عوضا عن أخبار الراديو على ايامنا صارت الأخبار منتشرة كما الهواء في أي مكان وفقدت في احيانٍ كثيرة مصداقيتها
وتشتت فعلا البلاد ليس لأن فيها حرب بل بفعل التمترس خلف الجماعة ،
كل جماعة تنتصر لأبنائها وكل فرقة تنتصر لزعيمها ، وكل بقعة جغرافيا وكأنها ليست جزءا من الوطن يتحدث أهلها ويساومون الإنفصال والذهاب.
رغبات يصرح البعض بها ويهدد
هل تراهم على حق يا يوسف؟
ماله الوطن إن توحد !
قل لي لماذا لا يجتهد الحكام في التفكير والحلول وإلا لماذا هم حكام !؟.
أنت تعرف أنني لا أحب السياسة
و أعرف ان أحوالنا كلها عندك ، لكنني على أية حال أحب الكتابة إليك ومراسلتك
لا شئ يسليني بعد زواج زينب و سفرها. خيرتني أما السفر معها وزوجها أو البقاء وحيدة
اخترت البقاء لأنني أحب هذه البلاد و أهتم أيضا لأمرها
انت لا تعرف زينب ، إنها أبنتي الوحيدة ، سميتها زينب ، على أمك ، ليس في إختيار الإسم محبة أمي أو امك بل سميتها كذلك من أجل غيابك الذي طال ، نحن بالأسماء أحيانا نخلد الناس في قلوبنا.
الإنسان كثير النسيان وفي النسيان رحمة ، تقلب الأحوال وموت الأحباب والأزواج و الهجرة من الديار و ضياع الأبناء و فقدهم والظلم والنفوس الخبيثة التي تصادفنا و الخداع الذي يمارس علينا و الغبن الذي يصيبنا
لولا رحمة النسيان ترانا ماذا كنا فاعلين.
عزيزي يوسف.. هل يمكن أن أتوقف هنا فأنا صائمة والمغرب كاد أن يدخل
سأحكي لك لاحقا عن كل شئ حدث معي.
اعدك بذلك.

تعليقات
Loading...