في أدب السيرة.. الأستاذ ود الفضل يكتب :محطات في مسيرة الحياة (٢٧)

الخرطوم :مرايا برس

ارهاصات المصالح الوطنية.. 
كانت المعارضة على اتم الاستعداد واللياقة وهي تتحرك بين اثيوبيا وليبيا وترتب في شئونها وتعد في ميثاقها استعداداً لاستلام السلطة وادارة دفة الحكم في السودان وفق نظام ديمقراطي يحتكم لرأى الشعب عبر صندوق الانتخابات. ورغم الذي حدث من نكسات ومن مواجهات إلا أن احدا لم يتوقع ان تأتي المصالحه بهذه الصورة المفاجئة.
وقد دارت نقاشات بين فصائل المعارضة حول الرؤية المستقبلية للعلاقة بين نظام نميري والمعارضة ولم تكن فكرة المصالحة بعيدة عن التفكير، فمن جانب الاسلاميين فقد تم عقد اجتماع في إحدى ضواحي  لندن حضره العديد من ممثليهم بالخارج وكان خيار المصالحة وارداً بشرط ان يتوفر للحركة الإسلامية مناخ العمل الدعوي همها الأول. وفي هذه الاثناء كانت تتحرك جهات أخرى جاعلة المصالح الوطنية هدفها الأول بعد ان استبعد الشيوعيون من الجبهة الوطنية ودق بينهم وبين نظام مايو عطر منشم.
طفح إلى السطح مساعي كل من عمر محمد الطيب نائب الرئيس نميري وفتح الرحمن البشير رجل الأعمال والقطب الإتحادي المعروف.
وبينما كل هذه الاحتمالات تروح وتغدوا والمشاورات سرها وعلنيها ينسرب في اضابير المعارضة إذا بالسيد الصادق يفاجئ الجميع برحلته لبورتسودان يوم ١٩٧٧/٧/٧م لمقابلة النميري ودون ان يخطر رفقاء الدرب بتوجيهه ولا بمضمون سفره بل ترك حديثاً مسجلاً في شريط كاست سلمه للدكتور عبدالحميد صالح بأنه ذهب لمقابلة النميري فإن مات فهو شهيد، وان عاد سيخطرهم بما اتفق عليه مع نميري.
هذا الحدث أثار علامات استفهام كثيرة حول تعرف السيد الصادق ودوافعه لذلك! هل صدمة الفشل في المحاولتين الجزيرة أبا والخرطوم ام في المواجهة الساخنة بين اقطاب المعارضة في لندن ام ربما ليأس اعتراه نتيجة كل هذه المحاولات غير الموفقة ام انسداد الافق أمام ناظريه في محاولة منازلة أخرى مع حكم النميري ومن أين وكيف بعد هذه التجارب المريرة!!
كيف ما كان الأمر فقد نجحت في تقديري مساعي عمر محمد الطيب وفتح الرحمن البشير في اتمام اللقاء بين السيد الصادق والنميري ولكن ماذا دار بينهما فهذا سر دُفن مع الاثنين الرئيس النميري والسيد الصادق. لأن الاجتماع الذي تم مع قيادة الجبهة بلندن لم تخرج منه غير حدة المواجهة بين السيد الصادق وممثلي جبهة الميثاق الإسلامي بسبب تجاوز السيد الصادق لمكتب الجبهة الوطنية وانفراده بالتواصل مع النظام دون ان يكون ذلك رأي القيادة مجتمعة وكاد الأمر أن يتحول إلى مشادة لولا تدخل الشريف حسين بقوله الصادق اخطرني، مما سبب حرجاً للأخوين أحمد عبدالرحمن وعثمان خالد مضوي ولكن الشريف حسين اخبرهما بعد ان انقضى الاجتماع بأن ما قاله لتهدئة الموقف فقط ولكن السيد الصادق لم يستشر احداً لا الشريف ولا غيره !. 
مما حدث من مواجهات نتيجة لتصرف السيد الصادق في أحداث أبا والخرطوم ومقابلة نميري يشير إلى أن كفة المصالحة مع النظام اصبحت راجحة.
ثم قطعت جهيزة كل خطيب حينما رُتب لسفر السيد الصادق وقيادة المعارضة للخرطوم لوضع المصالحة قيد التنفيذ.
غادر السيد الصادق لندن إلى الخرطوم وبرفقته ممثلوا الإسلاميين أحمد عبدالرحمن وعثمان خالد وتخلف الشريف حسين عن السفر في تلك الرحلة لأمر أسره في نفسه.
ولكن تخلف الشريف عن الرحلة لم يفقد الرجلين عمر محمد الطيب وفتح الرحمن البشير الأمل رغم علمهما بأن غياب الشريف عن مشهد المصالحة لن يؤدي إلى اكتمال الصورة.
عكف الرجلان على مساعيهما التي توجت بقبول الشريف للذهاب للسودان وبالتنسيق بين عمر محمد الطيب وفتح الرحمن البشير حدد تاريخ الذهاب ووقته وساعته كما حدد مطار قات وك لمغادرة الطائرة ووصولها للخرطوم في تمام الساعة الواحدة والنصف ظهراً وتم تأجير عربات الأجرة التي تنقل الشريف ومرافقية للمطار.
ذكرت هذه التفاصيل التي استمعت اليها من السيد فتح الرحمن البشير بمكتبه بلندن وكان فرحاً مستبشراً بهذا الإنجاز الذي يعود خيره على الوطن امناً واستقراراً وتنمية.
وفي مساء اليوم الذي سبق إقلاع الطائرة للخرطوم كنت مع السيد فتح الرحمن البشير في مكتبه بلندن وقد تأكد من اكمال كل الترتيبات التي تتعلق بمغادرة الشريف صباح اليوم التالي وفي أثناء وجودي مع السيد فتح الرحمن حضر طبيب سوداني من قبل الشريف ليخطر فتح الرحمن بعدم سفر الشريف لنصح من طبيبه الخاص لأسباب تتعلق بصحته. 
كانت لحظة من أحرج اللحظات على فتح الرحمن وظهر الغضب على وجهه الذي لم يتعود على مثله وهو الرجل المهول والمتريث في تصرفاته فقال وهو يتنفس الصعداء :”السودان دا الله يخلي ليه النميري والإخوان” 
وتأجل السفر دون تحديد موعد جديد.
وفي صباح اليوم التالي ذهبت للسيد الشريف حسين في مقر اقامتة ولم يكن بيني وبينه حواجز لعلاقات أسرية بين الشريف يوسف والعمدة الفضل، فسألت الشريف عن سبب تأجيله للسفر غير السبب الذي ذكره رسوله لفتح الرحمن البشير فقال لي (أنا ما بثق في نميري). وقد يكون ذلك بعضا من الحقيقة فقلت له إن المصالحة عبرت وأن إثنين من أركانها(الأمة والاسلاميون) الآن داخل السودان، ولكن بدونك ستكون مصالحة عرجاء. 

تعليقات
Loading...