قصة قصيرة بعنوان قالب الجبس للكاتبة ابتسام شاكوش

قصص قصيرة :مرايا برس

اقتحم سامي جمع أخوته المحتشد للترحيب به، وتخطاهم إلى أمه التي ظلت جالسة على الأرض، لم تنهض لاستقباله كعادتها دائماً, سألها فردت باكية بأنها أنجبت  ـ وليتها ما أنجبت ـ أولادها ستة، ويتركونها مرمية بلا دواء ولا طبيب، في حين أنجبت جارتها وهيبة ولداً واحداً، وما أن تعثرت على طريق البستان حتى سارع ولدها بحملها إلى المدينة، صور لها رجلها بالأشعة ـ تصور!

* وأنت يا أمي؟ ما بك؟

* وقعت في نفس المكان الذي وقعت فيه وهيبة، لكنك أخوتك يرفضون علاجي يقولون أن إصابتي ليست سوى رضة بسيطة تشفى من تلقاء نفسها، كيف تشفى؟ لقد ظللت جالسة في مكاني لا أستطيع النهوض، أنتظر لعل أحداً يمر ويأخذ بيدي, لكن أحداً لم يمر في ذلك الوقت بي، قمت متثاقلة حملت ألمي وعدت إلى هنا، ومنذ تلك الساعة، ما رآني أحد أقف على رجلي.

كانت تقطع كلماتها بالتنهيد، وتدق براحتيها المبسوطتين على فخذيها, تهز رأسها يميناً وشمالاً  آسفة على حظها التعس, بحركات لم تترك لسامي وقتاً للتفكير،  أمرها أن تجهز نفسها بسرعة ليحملها إلى المدينة.

تهلل وجه الأم، وخرج وسامي يستوقف الباص قبل أن يغادر ساحة القرية,  عاد بسرعة فوجد أمه جاهزة ولكنها حافية سألته:

* هل أذهب معك حافية يا بني؟

* ولماذا؟ أين أحذيتك؟

* الأحذية موجودة لكن قدمي تؤلمني، قد لا أطيق الحذاء.

* لا بأس ـ البسي الحذاء الخفيف, حذاء البيت، هيا بسرعة, كانت الأم في غاية السعادة، كأنما نسيت ألمها، ابتسم سامي, أحس بالدماء الحارة تهدر في داخله شلال حب وفخر، شعر أنه نال رضاها دون أخوته، ورضاها نجم بعيد صعب المنال، نزل من الباص وأنزلها برفق، بحنان، لم يتركها تمشي خطوة واحدة، سارع بإيقاف أول سيارة أجرة، وطلب من السائق أن يوصلهما إلى مشفى خاص، نعم مشفى خاص، وسيدفع من ماله كل ما يطلبون ليرضي أمه.

وصلت السيارة إلى باب  المشفى العريض، نزل سامي، لكن أمه تلكأت استعجلها، تباطأت

* أمي، هل أحملك؟

* لا.. لا أمش أنت وسأتبعك

تراجع خطوة، أمسك بذراعها، ودخلا المشفى، استقبلتهما ممرضة باسمة أشارت إلى غرفة الأشعة، دخل سامي مع أمه، التي كانت ترتجف من التوتر والارتباك، حاول استدراجهما إلى حديث ما، لإخراجها من ذلك الحال لكنه فشل.

* أمي، ماذا تشعرين؟

* لا شيء، لا شيء.

* أ أنت خائفة؟ الصور الشعاعية لا تخيف، عملية بسيطة جداً دخل الطبيب بثوبه الأبيض, ووقاره المعتاد، تسبقه ممرضة جميلة رشيقة الخطوة، أزاحت الملاءة عن السرير وأشارت للعجوز:

هيا يا خالة، اجلسي على السرير واكشفي عن رجلك المصابة,  نظرت الأم إلى ابنها وقد أسقط في يدها، تقدم سامي يريد حملها إلى السرير تمنعت

* أمي ما بك؟

* لا شيء… لكن… لكني

* ماذا؟

ـ نسيت على أية قدم وقعت، ما عدت أذكر أي القدمين هي الموجوعة, جحظت عينا سامي الذي راح يحدق متعجباً:

أمي، لكنك كنت تتألمين، وتعرجين على الجهة اليمنى,  لا بأس يا بني، فلنصور القدمين معاً احتار سامي فيما يجب عمله أمام الطبيب والممرضة، تردد لحظة ثم تقدم يائساً، حمل أمه ووضعها على السرير، كما أشارت الممرضة، تقدم الطبيب، أنزل من فوق رأسها ذراعاً معدنياً ينتهي بمصباح، قرب المصباح من قدمها اليمنى ثم دخل غرفة صغيرة، كبس بعض الأزرار ثم رجع على الفور, رفع الذراع وأطفأ المصباح, في عملية لم تستغرق أكثر من دقيقتين وخرج.

* هيا يا خالة، انزلي. قالت الممرضة

* ولماذا أنزل؟

* انتهينا من تصوير قدمك، بإمكانك الآن الذهاب إلى بيتك

* هكذا؟ أهذه هي الأشعة؟ لو كنت أعلم ذلك ما جئت إلى مشفاكم, خرج سامي من صمته، زفرة زفرة محرقة وسألها: ماذا كنت تظنين؟

* كنت أظن أنني سأخرج من هنا وقد ألبست ساقيّ الاثنتين  قالبين من الجبس، ظننت أني سأكون مثل وهيبة، أجلس في فراشي، وتأتي زوجتك وزوجة أخيك لخدمتي ثم، تأتون كلكم لتسهروا في الليل عندي.

احتار سامي، ما عاد يستطيع وصف شعوره، اختلط  لديه الإحباط بالخيبة,  والأسف بالشفقة, على هذه الأم التي تتصنع المرض لإذلال زوجات أولادها,  وإجبارهن على خدمتها، تتمنى أن تلبس ساقيها بقوالب من الجبس استجداء لعطف أولادها، وزيارتهم، الآن فقط عرف السبب في إهمال أخوته لها، كانت أفكاره ترفعه وتضعه، تقلبه على كل جانب في جو تسيطر عليه الخيبة لكنه ظل صامتاً كالتمثال، حتى جاءت الممرضة بالصورة، مرفقة بتقرير يؤكد سلامة القدم.

هب سامي واقفاً وأشار إلى أمه أن تتبعه، كان الزحام في المدينة على أشده، والقيظ ينعكس على الإسفلت كشواظ من نار، وسط هذا الجو، كان سامي ووالدته يعبران الشوارع المكتظة سيراً على الأقدام في طريقهما إلى موقف الباص الذي سيعيدهما إلى القرية.

تعليقات
Loading...