مبارك الكودة يكتب : مراجعات من الذاكرة

الخرطوم :مرايا برس

في العام ١٩٧٥ أنا وصديقي أحمد إبراهيم الحاج المشهور بحنوف تم نقلنا لمدرسة عديد المعاشرة ببطانة أب سن، وصلنا اليها أنا من الشواك وهو من قرية الجيرة ريفي كسلا ، وكلانا من مدينة كسلا !! أنا من شرق قاشها الجميل وهو من غربه ، وصلنا المدرسة وتم توزيع الجدول والمهام وكُلفت بأن أكون ضابطاً للداخلية ، وهذه مهمة كبيرة ربما تفوق مسئولية مدير المدرسة نفسه وبالفعل بدأت في تهيأت الداخلية لاستقبال التلاميذ الذين بدأوا يتوافدون إليها من البادية بعد العطلة الكبيرة ، فكان أن اجتمعتُ إبتداءً مع متعهد الداخلية بمنزله بالقضارف بدعوةٍ منه علي وجبة غداء كاربة أغراني فيها بإضافة عدداً من التلاميذ لراجعة التكاليف لتصبح الاستحقاقات المادية لمئة وخمسين طالباً بدلاً من العدد الحقيقي ولنتفترض انه كان مئة ، علي أن يُقَسّم العائد المادي من الخمسين طالباً الزور بيننا بالتساوي بعد خصم تكاليف إعاشة المعلمين والمدير وأسرته ، وقد عرض عليّ وجبات المعلمين والمدير بصورة فندقية يسيل لها اللعاب طبعاً بإلإضافة إلي ما هو خاص بي ٠
صدقوني لقد لعب الفأربعبي كما يقولون وخرجت من عنده بعد أن المحت إليه بالموافقة المبدئية ، وتوجهت فوراً إلي موقف اللواري ومنها إلي عديد المعاشرة ، وطيلة الرحلة التي كانت عندئذٍ تستغرق أربع ساعات تقريباً لرداءة الطريق بسبب الخريف كنت اتواري خجلاً من نفسي الكريهة القميئة وانتابني
شعور عميق بأني لست أنا ، وفعلاً لقد كنت أنا في تلك اللحظات لست أنا ، فقد اصبحت شيطاناً من الأنس !! كانت تلك اللحظات من أسوأ لحظات حياتي ، وصلت المدرسة وعلي الفور جلست مع أخي وصديقي حنفي في غرفتنا الخاصة بسكن المعلمين والتي كنّا نستغلها معاً وحكيت له الموضوع من طأطأ إلي السلام عليكم !! نظر اليّ حنفي نظرة طويلة رأيت فيها احتقاراً كثيفاً يتدفق منه تجاهي وخيبةً مرسومة علي وجهه !! تنهد حنوف طويلاً وخاطبني : معقول يا كوده ناكل حق تلاميذنا ناس مُحُمد الحسن وحمد النيل و ذكر لي بعض تلاميذي الذين كنت أباً لفصلهم بأسمائهم !! واضاف : دي بتجي يا كوده ؟ وقع عليّ حديثه كالصاعقة وبدأت أري صور هؤلاء الأطفال الأبرياء أمامي وهم ينظرون إليَّ مثالاً يحتذي !! فقلت له متعحلاً و بتعتعة خجولة ومنكسرة : نحن يا حنفي ما حا ناكل حق الأولاد !! وقبل أن أكمل كلامي قال لي : حا ناكل حق منو يا كوده ؟ بعد تبيعنا لهذا المتعهد سيكون له الحق بعد ذلك أن يعمل في حق الاولاد ما يشاء ولن نستطيع عندها أن نعصي له أمراً !! قمت من أمامه إلي حيث مرقدي ، ولم أنم تلك الليلة إلي أن اصبح الصبح وكنت اتحاشي أن تقع عيناي في عينيه !! لم يحدثني ولم أحدثه طيلة تلك الليلة الثقيلة وكانت غرفتنا من قبل هذه الكارثة قبلةً لكل من يريد أن يضحك ويلهو ويتسامر من المعلمين ٠
صدقوني لم نك معاً من المصلين وكنا نخوض كل ضروب اللهو ودروبها مع الخائضين ، ولكنّا بصدق كنّا رجالاً صدقوا ما عاهدوا أنفسهم عليه ، ولك أن تتخيل شباب في سبيعنيات القرن الماضي بكل جماله وجمالنا لم يكن لهم من واعز غير هذا الضمير الإنساني الحي ، والذي هو أقوي من أي واعز كان !! التحية لك أخي أحمد في الخالدين فقد تعلمنا منك الكثير فكانت النكته بيننا محاضرة والقفشة مقال !! أعتقد لازال فيكم أيها الشباب حنوف الذي مضي الي ربه ، وما عليكم إلا أن يستوي صفكم الإنساني بعيداً عن الادلجة وصراعاتها الفارغة والتافهة فإنها شيطان رجيم وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، طبعاً تم نقلي بعد عام واحد من مدرسة العديد الي مدرسة السواقي الجنوبية بكسلا لأني لم أستجب ، وكان من المفترض أن أقضي عامين كاملين ، وجاء النقل الي كسلا لكي لا أحتج ، طبعاً المعلمين قالوا لي واسطتك قوية لأن كل دفعتي في ذلك العام تم نقلها لجنوب السودان  (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً). 

تعليقات
Loading...