محمد عمر هارون يكتب :نافذة على الأمثال السودانية (لو ما ربيت ما تقول ولِدتّ).

الخرطوم، مرايا برس

جاء عمنا عبدالمجيد الطاهر جلجال من الرماش مريضاً؛ فزرته في بيت ابنه المحامي الشهير عماد جلجال؛ وفي أثناء سمري وانسي معه وهو رجل خفيف الظل، ذرب اللسان يجيد انتقاء الحكايات الشيقة..ذكر لي هذا المثل الذي لم اسمع به من قبل. معنى المثل إذا أنجبت ذرية ولم ترعها أو تشرف على تربيتها بالمتابعة والمراقبة والتعليم والتأديب والإنفاق؛ فليس لك ذرية؛ فلن تفيدك؛ ولن تنفعك. مجرد إنجابا إسميا شكليا وهميا؛ لأنه لم يرتبط وجدانياً بمعاني الأبوّة والبنوّة السامية.
هذا المثل في تقديري يستهدف شرائح من الرجال الذين ينجبون ثم يطلْقون نسائهم أو يهربون من مسئولياتهم حيال أطفالهم؛ فيهملون ويستهترون ولا يهتمون بأطفالهم، النتيجة الحتمية حينما يكبر الأطفال لايتعاطفون مع الأباء الذين هربوا منهم وقت الشدّة. وتركوهم ليربوهم الأخوال أو الأمهات أو أزواج الأمهات.
هذا المثل حقيقة ينسجم مع أطروحات علم النفس التعليمي وعلم نفس النمو؛ وعلم النفس الإجتماعي؛ عاطفة الأبوّة والبنوّة لاتنمو إلاّ بالإقتراب والإحتكاك؛ والإهتمام الزائد وتلبية الرغبات. أحتواء، إحتضان، قُبل ومراقبة ميول واتجاهات الطفل، لتحسس أحاسيسه ومشاعره. بل في غياب الأب تنمو العقد المركبة. الشعور بالنقص والدونية فيحدث الإختلال العاطفي؛ ولا يحدث التوازن الوجداني؛ غياب الأب يشعر الطفل بالنقص؛ وهو يرى الأباء يغمرون أبناءهم بالعطف والحنان، وهو لايرى والده لسنوات. للتربية سلطان على القلوب فالطفلات أو الأطفال يرون في الأب المثل الأعلى والنموذج الأرقى؛ فقده يمثل حسرة ولوعة إلا في حالة الوفاة. أمّا هربه وتركه لأطفال زغب الحواصل لا ماء ولا شجر فهو عين الجريمة الوبيلة. ولن يرحمونه حينما يكبرون.
كنت في الثامنة عشر ة من عمري، بصدد أستخراج بطاقة شخصية، كتب لي قريبي خطاباً لإبنه بالخرطوم. يوصيه بإستخراج البطاقة على جناح السرعة؛ فور وصولي الخرطوم وفي اليوم التالي؛ يمْمت شطر مكتب البطاقة؛ وبمجرد وصولي لمكتب البطاقة،سألت عن م م ر قريبي الذي لم أره قبل ذلك . علمت أنه موجود، ذهبت له و سلمت عليه وسلمته الخطاب من والده. وبمجرد أن فرغ من قراءتة قال بإنفعال ( أبوي دا الله انعل يومو) تراجعت للوراء خفت خوفاً شديداً وأنا في مكتب الشرطة. تساءلت لماذا زجني قريبي مع ابنه الملعون الذي يسب الدين لوالده. وهل سيساعدني هذا العاق؟ شعر الشاب بإرتباكي. وتوجسي؛ سرعان ماصافحني بود تارة أخرى مبددا مخاوفي لم يسألني عن صحة والده بل سأل عن صحة جدته لأبيه.. الغريب عمل بوصية والده وساعدني في إستخراج البطاقة. عندما عدت لبيت عمتي العطوفة البشوشة الودودة اللطيفة فاطمة عمر بأم درمان، حكيت لها ماجرى. قالت لي عمك (م. ر) طلق أمّه وهو طفل عمر خمسة شهور. فرباه زوج أمه؛ ولم ير والده منذ طلاق أمّه وكذلك طلق ثلاث نساء ولم يربي طفلا. أحداهن تزوجها طبيب وربي الولد والبنت في حي العمارات وانجب طفلة الآن طبيبة أختصاصية( صار الرجل قائدا للسلاح الطبي؛ وقريبنا كان ممرضا) كان قريبا ينجب ولا يربي فعاش أعزباً بائساً مشرداً رغم وجود أولاده وبناته في مراكز مرموقة بالعاصمة.
فالطفل يحب والده الذي يلاطفه ويداعبه ويلاعبه ويضمه لصدره ويحمله ويهدهده ويناغيه ويناجيه ويوفر له كل مايطلبه، ويشتهيه ما أصدق هذا المثل( الما ربى ما وِلد).

تعليقات
Loading...