مقاربة التحرش الجنسي إشكالات مفاهيمية..

د.الوليد مادبو.

..

..

ذكرت مراراً أنه لا يمكن، بل لا يعقل أن تتم مناقشة قضايا “التحرش الجنسي” في إطار افتراضي، لأنه لا توجد ببساطة ممارسة للتحرش الجنسي أو غيره إلا في إطار علائقي. من هنا نبع شغفي منذ فترة لتتبع العلاقة بين الجنس والعنف والعنصرية وتبلورت رؤياي في كتابي (المدينة الآثمة) ولم يقتصر إهتمامي على عقد المقارنة بين الإنقاذ والمهدية، إنما تعداه للتفكر في الشأن التنموي. لأن الابتكار الذي هو قوام أية حضارة إنسانية لا يمكن أن يقوم به أناس غير متسقين مع ذواتهم، الأسوأ منفصمين إنفصاما مرده إلى غياب الحرية الشخصية وعدم الإعتناء، بل إزدراء، الذاتية أو الفردية. وقد رأيت من الأنسب في هذا الظرف إشراك القراء في توطئة كتاب المدينة الآثمة، علها تثير حواراً فلسفياً وفكرياً، ينأى بالقراء عن المقاربات الوعظية وعن الإنفعالات الشخصية.
في هذه المدينة التي عانت من صلف الطغاة، وما زالت تجأر تحت وطأة الإستبداد، يخوض المرء معتركاً صعباً، لا يلبث أن يكون الضمير أول ضحايا (فصل حرية الضمير). لا ترجو مثل هذه الأنظمة من الشخص ان يكون مبدعاً ومبتكراً، إنما تتطلب منه أن يكون موقناً وممتثلاً. موقناً بأن الخلاص الأخروي لا يتحقق إلا إذا ضحى المرء بكل أمانيه وأشواقه في الحياة وممتثلا لأمر السلطان – الذي ومن عجب – يرى أنَ فئةً من الناّس خاصة خلقت لنيل الحقوق والتمتع بمباهج الحياة، بالتحديد هو وذويه من المتخمين الولهين.
وإذا كان الإنسان يستمد قيمته من التضامن مع الآخرين، فإن فرديته تتأثر سلباً بالإنعزال والإنسحاب إلى فضاء خاص يجد فيه فرصة لممارسة حريته، لكنه نوعاً من الحرية لا يمنحه فرصة للتسامي ولا يسهم في انعتاقه من أسوار المدينة، إنّما الإنغماس في أكثر أنشطتها إثماً، والتبجح بأكثر ألفاظها بذاءة (فصل المدينة الأثمة).
فالجنس الذي من المفترض أن يكون حيلة الإنسان إلى الإمتاع والمؤانسة يصبح أداته للتشفي من ذاته والإنتقام من الآخرين. وإذا كان العنف مختزناً في الذاكرة الجمعية (فصل الجنس عند السودانيين: نزوة أم غزوة)، فإن ثمة آليات إجتماعية وإقتصادية وسياسية – لابد من الكشف عنها – ظلت بوعي أو من دون وعي تسعى لتفعيل هذه الذاكرة حتى استحال الفضاء العمومي إلى مسرحٍ للموت والحقد والكراهية (فصل ثقافة الموت والحقد والكراهية: الجنس محفِّزاً). وفي كل مرة يكون الضعفاء خاصة، من أطفال ونساء، هم الضحية.
وإذ شارفت مجتمعاتنا حافة الانهيار أو كادت أن تنهار بالكامل، فلم يعد من الممكن الإستمرار في التمثيل أو القبول بمحاولات الإصلاح التلفيقية أو الترقيعية. لا بد إذن من محاولة إصلاح جادة ترمي لتفكيك تاريخنا السياسي والإجتماعي، ومن ثم تعمل بصورة منهجية علمية. الأهم أن يكون الإجراء مؤسسياً وديمقراطياً يضمن تفاعل كافة المعنين، يرصد أسباب تقهقرهم عن مسيرة التنمية وتأخرهم عن ركب الحضارة، ويروم إعادة التوازن للمجتمعات من خلال التصميم الخلاق لسياسات (فصل الحوكمة وقضايا الأسرة)، واتخاذ كافة التدابير لتنفيذها وضمان إستدامتها.
وإذ ظللنا نكابر ونعاند بل نتخذ من التدابير المؤسسية ما يضمن دونية المرأة، ونغفل تلك البنيوية المتمثلة في الثقافة واللغة، فقد تسببنا في تخلف مجتمعاتنا وحرمناها من مستودع ذاخر بالعبقرية ومفعمٍ بالأريحية (فصل الجميلات هنّ الجميلات). يجب أن نوقن بأن رفعة المرأة وارتقائها بالأسلوب الذي يتسق مع ذاتها وكينونتها يعتبر ضماناً لنهضتنا وبعثاً لحضارتنا (الإفريقية والعربية والإسلامية والمسيحية النوبية)، التي طالما نشدت توازناً بين الجسد والروح (فصل براعة الجسد ومهارة الروح)، قعدت به دواعي التقليدانية وأراجيف المحافظة، قبل أن تهزأ به رياح الحضارة الغربية، الزائف منها والراجح.
بعيداً عن الحماسة، فإن هذا التوازن من شأنه أن يحقق للفرد ذاتية طالما كانت ضرورية لتعزيز الروح الجماعية اللازمة والمطلوبة لمحاربة “المنطق السكوتي الثابت” على حد تعبير المهدي المنجرة (قيمة القيم، 2008)،الذي يكبل المجتمعات ويحول دون تصورها لهيكل مغاير وبنيان عماده العدالة الإجتماعية، الحرية، التنوع الثقافي، العزة والكرامة الإنسانية.

تعليقات
Loading...