هبه بت عريض تكتب : مأزق السودان : حُكم القوي على الضعيف

الخرطوم :مرايا برس

يقال أن شدة البركان يدركها الناظر عن بعد أكثر من الذي يعيش وسطه وفي مركزه، ذلك أن الأخير مبتلى بضرورة إيجاد طرق للخلاص من بلواه، والنجاة من الأخطار المحدقة به ، وباحتساب مايجري في السودان بساحاته السياسية والأمنية والاقتصادية والإدارية بركاناً من الصعب السيطره عليه. 
وهنا سأتخذ موقع الناظر من بعيد على مركز البركان ، لعلي أصيب في قراءتي للموقف وتقييمي للحالة، وكما قيل: (الكتاب يبين من عنوانه). أو كما أنشد المتنبي:

(خذ مارأيت ودع شيئا سمعت به..في طلعت الشمس مايغنيك عن زحل). 
إن أول شيء يلوح لي هو ابتعاد رؤوس الحكم والساسة والمسؤولين في مفاصل البلد عن العمل لصالح الوطن والمواطن، فالانتماء والولاء ليس للسودان الوطن ، وليس للذين ضمخوا أصابعهم بالحبر البنفسجي بعد تحديهم كثيرا من التهديدات والمخاطر، فالولاء شطّ بعيدا عن نهج السياسيين، والانتماء يلوِّح بكل جرأة راحلا عنهم معلنا ان آخر المستفيدين من التغيير المزمع هم السودانيون.
فقد حرص رؤساء الكتل والأحزاب والتحالفات على دفع مرشحيهم للتشكيلات الوزارية، وفق مقاييس لاتخدم الوزارات ولا المؤسسات ولا الهيئات، إذ دُفعت أسماء المرشحين وفق نظرية الـ (گوتره). كما لم يكن لفقرات الدستور حضور واحترام، لاسيما إزاء المسجلة ضدهم سيرة سيئة في تاريخ السودان الأمني والقومي. 
حسب المتداول قبل الثورة، إن التوظيف والاستوزار يتم وفق معايير حزبيه ولائيه الولاء فيها للحزب والرئيس بعيداً عن معايير الخبره والمهنيه ، ويتم ترشيح الشخص للوظيفه التي لايفقه شيئا عنها غير التلفظ بعبارة (نعم سيدي) ويريه من المغريات المادية مالم يكن يحلم بنيلها بتاتا، ليوزره وزارة حساسة تتطلب ممن يستوزرها مواصفات ومؤهلات علمية، ويتمتع بشخصية قيادية فضلا عن سيرته وسلوكه وتاريخه المهني وحتى الشخصي والعائلي، وبذا يضمن ان الوزارة أخذت طريقها الى الحضيض، حيث يتدنى العمل بمؤسساتها وهيئاتها إدارياً وانتاجياً، فتصبح اسماء على غير مسمى وهذا ماكان يرسم اليه ويخطط له ويعمل كل شيء من أجل تحقيقه. وبسيناريو ساذج يقيل هذا الوزير بعد حين بسبب او من دون سبب، ويأتي بغيره بالمواصفات المتدنية ذاتها فيكمل مشوار سابقه في صنع الخراب ونشر الفوضى والتخلف ومظاهر الفساد في وزارته. ومن المؤكد أن الحال في التسلسل الهرمي للوزارة يصبح بفعل وزراء كهؤلاء تسلسلاً ليس له اول ولاآخر فتنتقل عدوى سوء الإدارة الى المديرين العامين فالمعاونين فالمديرين فالموظفين، وهكذا سار الحال الى ان استحال حال البلاد الى رقعة جغرافية على سطح الكرة الأرضية بعيدة عن مسيرة باقي الأمم في الرقي والبناء والعمران.

هي تجربة يعيها جيدا كل ساستنا ويذكرونها بالتفصيل الممل، سواء من ركبوا موجة السلطة وأبحروا في تيار الجاه والسلطان، أم الذين يتطلعون الى نيل مركز مرموق في سدة الحكم، ويسعون الى الوصول اليه بشكل او بآخر !!. 
وباستقراء بسيط لما كان وما سيكون، تتضح مآلات الأمور ويسهل التخمين في مكانة البلد ووزاراتها، وبأي درك ستقبع فيه بعد حين، مادام النهج الذي اتبع سابقا في الاستيزار والتنصيب نهجاً محاصصاتياً، ومادام المتسلطون فيه تسلقيين متصيدين في عكر المياه فرصا غير نظيفة، بعد أن تبواؤ مناصب ظنوا أنها تشريف، ونسوا لا تناسوا أنها تكليف، فتضحى بالنتيجة مؤسسات الدولة بنايات تخدم الفاسدين وتنفع السارقين، فيما يعم ضررها وشررها السودانيين خارج وداخل السودان ، وتكون الفأس حينها قد وقعت في الرأس والجذع والأطراف !!

وتمر الأيام. 
وتأتي ايام مابعد الثوره وتعاد فيها سيناريوهات العقود الماضية كلها لكن بشخوص جدد، وأسماء جديدة، وميلاد سودان جديد ،فيه يكمل الساسة ما يعمله نظراؤهم بالأمس ، وستكون حتماً للخرطوم سقوطات جديدة، ونكبات لاتنتهي.
فحالة الانسداد السياسي القائم الآن ،وربما يستمر لسنوات قادمات ،هي نتيجه طبيعيه ومتوقعه لعقيدة النخب الحاكمه التي تتحايل على مطالب الشعب ،فتؤيدها علناً وتعمل ضدها في الخفاء وخلف الابواب المغلقه ، ويمكن تحديد أصل المأزق الحالي بإصرار الإطاريين الولائيين على رفض حكم العسكر والمطالبه بدوله مدنيه في ظل الهشاشه الامنيه الآنيه ،رغم ان بعض مطالب الشعب إنصافه ،ومحاربة الفساد ،واستعادة القرار الوطني المستقل ومحاكمة الفاعليين .
فتشكيل حكومه على أساس هذه الوعود ،حكومه مهتزة الاركان ،ناقصة الأهليه ،وهي تعلم حين تعلم أنها عاجزة عن الوفاء بأيّ منها يعني تشجيع الشعب للقيام بثوره شعبيه جديدة ،وتبدأ رحلة المزيد والمزيد من الثورات بلا حدود .
فأذن لا مخرج من هذا المأزق إلا بعمل شعبي جراحي جذري شامل يقلب الطاوله ،عاليها سافلها ،حتى وان كان مؤلماً ،وبثمن باهظ من الوزن الثقيل ،وهذه هي المشكله التي ابقت الشعب السوداني معلقاً في الهواء ،منتظر نتائج هذه الحرب الطاحنه بين الرافضين والقابلين ،علي امل الحل الذي يحقق مصالح جميع المختلفين ، والذي لم يأتي في غدٍ منظور .
ومأزق آخر وجد الشعب السوداني فيه يتلخص في حجم البون الشاسع بين التغيير الذي يحلم به ويصرّ عليه وبين الاصلاحات الموعودة التي لن تستطيع الحكومة تمريرها من بين صخور واشواك المحاور. 

 وتبقى الامور في خانة الترضيات والمفاهمات ،املاً في اقتناع احد الاطراف اخيراً بعجزه عن الاستمرار في محاولة الانتصار ،ثم الاستغناء عن شركائه الآخرين في السلطة ،مع حرص جميع الاطراف وبضغوط إقليميه دولية على عدم دخولهم مرحلة كسر العظم بكل الوسائل والاساليب في انتظار الحل التوافقي الموعود. 

تعليقات
Loading...