كسلا.. الحضارة المجهولة

جولة سياحية قام بها.. أحمد بن بامنت

هي محاولة للهروب من رهق كتابة التقارير الإخبارية والسياسية التي تصيب بالغثيان فكل تقرير يصدر تخرج معه الآف الهزائم وكمية من الإحباط والقلق لمآلات لاتخفى على أحد. فجاءت فكرة التنوع وطرق ضرب آخر لم ألتفت اليه من ذي قبل وساقني في ذلك حديث دار بالقرب مني عن منطقة مامان بشرق السودان،، تقارب المفردة مع لفظ هامان إستوقفني،، ومن هنا بدأت الرحلة التي ساقتني الى عوالم أخرى لم تكن في الحسبان طوفنا من خلالها ارجاء الشرق بولايتي كسلا و البحر الاحمر والقضارف لنفتح صفحات من كتاب لم يقرأ بعد عن حضارة وآثار شرق السودان برفقة خبير الاثار والباحث والمختص في آثار شرق السودان الأستاذ أبوعبيدة الماحي خليفة  وقفنا من خلالها على أنماط الكتابة الصخرية في فترة العصر الحجري الحديث بمنطقة سلاسير بولاية البحر الأحمر أدهشنا ما رأينا من حضارة وتاريخ موغل في القدم وستظل هذه اللغة الأثرية شاهدة على حضارة منسية ومهملة لم تجد من يسلط عليها الضوء ويعمل على سبر أغوارها وإعادة اكتشافها ولاشك ان شرق السودان بموقعه الجغرافي المتميز لم يكن بعيد عن حضارة السودان القديم وقد يكون جزءاً من تلك الحضارة.
الطريق الى مامان
كثبان رملية تسوقها الرياح لتحيط بمنطقة مامان بمحلية تلكوك بولاية كسلا شرقي السودان و التي تبعد حوالي (175) كلم من كسلا على الجانب الشمالي الشرقي للمدينة وعورة الطريق وبعد المسافة وطبيعة المنطقة ضربت حولها طوق من العزلة حال دون سبر أغوارها، فإحتفظت بكامل أسرارها على الرغم من إنتشار الكثير من الشواهد والدلائل التي تؤكد أنها منطقة حبلى بالكثير فبين جبل (أقيرنيب) وجبل (مامان) وجبل (هشنيت) وعدد من الخيران والمجاري يرقد الوادي المنبسط الذي تسور بتلك الجبال مع كثبان رملية تنتشر على طول المنطقة تنتشر قباب يتجاوز اعدادها المئات مشيدة على نمط هندسي بالغ الدقة والتعقيد حيث تتكون تلك القباب من مجموعة صخور منحوتة على أشكال شرائح حجرية متراصة لاتجد أي نوع من الأنواع المستخدمة في البناء(المونة)فهي تقوم على طريقة متراصة وبتجانس متناهي.
نسجت حول تلك القباب بمنطقة مامان الكثير من الروايات والقصص تعامل معها سكان المنطقة بنوع من الحذر حينا وبعدم الإكتراث واللامبالاة في أحياناً كثيرة فقلما يقتربوا من تلك القباب ،علماً بأن هنالك أهالي يقطنون على مسافة منها ، يتناقلون بعض الروايات عن تلك القباب إلا أنهم غير متثبتين يقيناً بأي من تلك الروايات هي الأصح ، فمنهم من يزعم أنها كانت مدافن ومنهم من قال أنها ترجع الى التركية السابقة ومنهم  من يدعي أنها كانت سكنات لفرقة عسكرية أن قائدهم كان اسمه مامون وحرفت واصبحت مامان وهنالك روايه تذهب الى فترة أبعد من ذلك فقد روى  لي أحدهم ان هنالك عالمة آثار مصرية جاءت الى المنطقة وزعمت أن مامان هو شقيق هامان وزير فرعون وغيرها من تلك الروايات التي تؤكد ان لتلك المناطق تاريخ لم يقرأ بعد .
إلا أنهم ظلوا دوماً يستقبلون وفود من الباحثين والمنظمات الأجنبية الأجانب الذين يجوبون المنطقة ويقفون على تلك الشواهد والقباب ويدونون في دفاترهم ما تقع عليه أعينهم ويمضون في حال سبيلهم ،دون الكشف عن ما دونوه لهم … يقول الشيخ  السبعيني  علي محمد دين أن هؤلاء الأجانب يأتون دوماً وهم على دراية تامة بعدد من المواقع يجوبونها ويسجلون ملاحظاتهم ويمضون ونحن لا نعرف مرادهم إن كان عن الآثار أم عن التعدين أم غير ذلك؟ فقد أكد أن المنطقة غنية بالمعادن من ذهب،رخام ،حديد ،اسمنت وغيرها من المعادن .
وبعيداً عن تلك الروايات والقصص واستنادا على الدراسات الأكاديمية التي تؤكد أن المجموعات القاطنة بتلك المنطقة من مكونات قبائل البجا والتي ورد ذكرهم في النصوص المصرية القديمة وكان يطلق عليهم بلاد البليمين والمقباروي وبناءا على ذات الدراسات فقد ذكر المؤرخ إراتوستين أن البليميون ويقصد بهم البجا كان لهم دورا بارزاً في منطقة شمال السودان وجنوب مصر بعد القرن الثالث الميلادي كما أنه ورد ذكرهم في العديد من المصادر الرومانية واللاتينية القديمة وكان لهم إتصالات تجارية مع الفراعنة وتؤكد الدراسات التاريخية الى أن الفراعنة كانوا يستخرجون الذهب من مناجم البجا وقد ذكر ذلك إبن حوقل كما ذكر الزمخشري في كتابه معجم البلدان( بجاة ارض النوبه بها إبل فرهة واليها تنسب الإبل البجاوية وقال عنهم ، أنهم أمم عظيمة بين العرب والحبش .)
وبناءا على تلك الخلفية وربطها مع ما يتوافر من شواهد على الأرض بمنطقة مامان ومع كل ما يذكر من روايات حول تلك المنطقة يتأكد بأن هذه الشواهد والتي تمتد علي طول الوادي تمثل أثرا لحضارة ما حيث نجد أن تلك الشواهد التي تقوم علي شكل قباب تنتشر على طول المنطقة تشير الى وجود آثاراً لم تكتشف بعد ، وقد أكدت لنا الأستاذة حباب ادريس خبيرة الآثار بالهئية العامة للآثار والمتاحف الإتحادية أن موقع مامان تم تسجيله كموقع أثري وذلك عقب البلاغ المقدم من معتمد محلية تلكوك آنذاك، الأستاذ محمد طاهر سليمان بيتاي أثر التعديات التي ظل الموقع يتعرض لها من قبل المعدنيين وقالت إن الهئية قامت بإجراء مسح ميداني للموقع وكانت نتائج تلك المسوحات أن هذه الآثار مجموعة من القباب تماثل نمط البناء الحجري في العصور الإسلامية المبكرة أو في المسيحية وأكدت أن الموقع لم تتم عليه أية أعمال حفريات إستكشافية لكن تم تسجيل الموقع وأشارت إلى حجم تلك القباب 50 ×50 وان البوابة لا تتعدى خمسة ونصف سنتمتر  وأن بوابات تلك القباب جميعها تفتح على الجانب الشرقي بإتجاه القبلة ،ورجحت  أن تعود تلك الآثار الى أبعد من ذلك ولم تستبعد أن تكون في فترة مابعد مروي وقالت إن المسح لم يرصد وجود فخار حول تلك القباب  أو حول المحيط الخارجي لها. الأمر الذي ينفي وجود سكن بالموقع، إلا أن الباحث أبوعبيدة الماحي خبير الاثار رحج ان تكون هذه الآثار في فترة العصر الوسيط ولم يشترط وجود فخار للجزم بعدم تواجد سكني بالموقع بإعتبار أن المجتمع، مجتمع رعوي يعتمد على نبات الدوم المنتشر بالمنطقة ، فيما أشارت حباب الى نتائج البعثة المشتركة لجامعة نابولي برئاسة البروفيسور اندريا مانزو والتي بدأت أعمالها بشرق السودان منذ عام 1988م وسنوياً تواصل زيارتها للولاية في محاولة لدراسة حضارة منطقة  القاش ومكرام وربطها مع مثيلاتها من الحضارات القائمه انذاك، وقالت: أن الصخورالمستخدمة في تلك القباب مقطعه علي أشكال شرائح أن البناء قائم على طريقة التشبيك ومع ذلك فإنه بالمتانة التي أتاحت له الصمود  أمام كل تلك السنين وأن تلك القباب مجوفة من الداخل ولم تستبعد أن تكون مدافن فقد تلاحظ وجود آثار لعظام آدمية وهنا قال الباحث أبوعبيدة الماحي: إن كانت هذه القباب مدافن إسلامية أو مسيحية كان من الضروري وجود شواهد عليها وإن كانت بعض روايات السكان المحلين تؤكد أنها مدافن .
وأشارت حباب الى جملة من المعوقات التي حالت دون العمل بمنطقة مامان آنذاك فقد كان هنالك خطر الألغام المنتشره حول المنطقة بالإضافة الى بعد المنطقة ووعورة الطريق فضلا عن جملة من التحديات التي تواجه أعمال الحفريات الإستكشافية الاثريه واكدت الاستاذة سارة على مسؤول الآثار بإدارة السياحة بكسلا الى أن عالم الآثار الإثيوبي ورئيس قسم الآثار بجامعة أديس أبابا  الأستاذ الم متنقوس جاء الى المنطقة وخلصت ابحاثه  الي وجود القمح والبذور في منطقة تقلانيوس  قبل الاف السنين مما يعزز فرضية وجود حضارة في تلك المنطقة .
ووصف الاستاذ عبدالله اوبشار في كتابه( الإكتشاف العظيم) أن الآثار بمنطقة مامان بكسلا تعد كنزا خفيا لتاريخ تلك الحضارات مشيرا الى أن البعثات الأثرية وعمليات التنقيب التي اجريت بتلك المنطقة تؤكد ذلك وقال إن هنالك جمله من الآثار التي لم تكتشف بعد وهي معرضة للسرقة والتشوهات.
علما بأن منطقة مامان قد ثبت أن بها كميات مقدرة من الذهب والرخام والاسمنت وتشهد عمليات تنقيب واسعة الأمر الذي يجعل من هذه المناطق الأثرية عرضة للكثير من التعديات مما يستوجب على الجهات المختصة التحرك الفوري لتأمينها
وأكد مدير إدارة السياحة بوزارة الثقافة والإعلام والسياحة بولاية كسلا الأستاذ علاء الدين المبارك أن الإدارة قامت بالإشراف والمتابعة لعمليات المسح التي تمت من قبل البعثة الإيطالية والهئية القومية للآثار والمتاحف  الإتحادية وقامت بتسجيل موقع مامان كموقع أثري وقال أن هذه المنطقة تقف على آثار تمثل حضارة لم تكتشف بعد أن الجهود ستتواصل لإكتشافها وحمايتها وأشار كذلك الى موقع تقلانيوس الذي لايبعد كثيراً عن مدينة كسلا والذي اثبتت الدراسات ونتائج الحفريات التي تمت فيه  علي وجود حضارة موغلة في القدم بتلك المنطقة وقد كانت معبرا للحركة التجارية بين شرق السودان ومملكة أكسوم الحبشية مبيناً أن الحفريات أثبتت وجود كميات كبيرة من الفخار والمدافن بتلك المنطقة وقد تم تسويرها وحمايتها .
جملة القول ان كل هذه الدراسات أعطت إشارات أولية وإضاءات الي طريق طويل لسبر اغوار تلك المنطقة والكشف عما تحمله في طياتها  وهو مايتتطلب تضافر الجهود الرسمية مع الدراسات الأكاديمية المتخصصة وهو الدور الذي يعول على جامعة كسلا القيام به خاصة قسم الجغرافيا والتاريخ حتي يتسني كشف الحقائق الخفيه والتعريف بحضارة شرق السودان للعالم أجمع .

الحضارةالسودانالمجهولةكسلامرايا برس